عنف مُستَتِر

إيمان أحمد ونوس:

بانقضاء العصر الأمومي الذي سادت فيه المرأة على مختلف مناحي الحياة بما فيها علاقتها بالرجل والأولاد الذين كان نسبهم يعود إليها، بانقضاء ذلك العهد سُلبت غالبية حقوق المرأة التي تهاوت مكانتها بعد تقسيم العمل وظهور الطبقات الاجتماعية التي أفرزها ذلك التقسيم المُستند إلى القوة المادية- الاقتصادية، الجسدية والعضلية.

منذ ذلك التاريخ سار الاضطهاد والتمييز جنباً إلى جنب المرأة في مختلف مناحي ومراحل حياتها، وغدا سمة أساسية من سمات التعامل معها لدى مختلف الشعوب، لاسيما مع ظهور الأديان التي اعتمدت جميعها قصة الخلق أساساً في النظرة إلى المرأة والتعامل معها على أنها مصدر كل غواية وسبب كل بلاء يُصيب المجتمع والحياة، وعليه نُسجت الكثير من الأساطير والأوهام والمفاهيم التي ساهمت مع العديد من القيم والأعراف الدينية والاجتماعية في تدني قيمة المرأة ومرتبتها يوماً بعد آخر رغم هالة القداسة التي تُحيط بها كأم.

لقد عانت المرأة وما تزال في غالبية المجتمعات البشرية من تبعات هذا الواقع الذي فرض عليها شتّى أنواع العنف والتمييز الذي قهرها وقمع كل إمكانية لتطور مداركها وتفتّح وعيها، وقد تماهت هي ذاتها مع هذا الواقع الذي اعتبرته على مرّ الزمان قدراً محتوماً وبعضاً من أساس تكوينها البيولوجي والنفسي حتى تجذّر في تلافيف وعيها ولا وعيها على أنه المنطق الطبيعي للحياة، وهذا أهم وأخطر أنواع العنف الذي يُطلق عليه صفة العنف الرمزي باعتباره عنفاً مُستَتِراً تتبناه المرأة ذاتها ضدّ ذاتها، فتغدو معه من ألدّ أعداء المرأة التي تخالفها التفكير والرؤى حتى ولو كانت ابنتها!

لقد ساهم العنف الرمزي هذا باستمرار واشتداد وطأة أنواع العنف الأخرى ضدّ المرأة، بسبب تجذّره في لا وعي المرأة لاسيما حين تُصبح أمّاً ومربية للأجيال، فتُعيد إنتاج المنظومة القيمية ذاتها المفعمة بالعنف والتمييز تجاه أبنائها من الجنسين، إذ تُعطي الأفضلية للذكور على الإناث اللواتي تقمعهن لدى أيّة بادرة للانعتاق من أسر القيود التمييزية والعنفية ضدّ المرأة. من هنا نتلمّس أحد أهم أسباب استمرار مختلف أنواع العنف والتمييز الذي تعانيه النساء لاسيما في المجتمعات المُتخلّفة والتي تحكمها دساتير مستمدٌ بعضها من التشريع الديني، مثلما تحكمها منظومات اقتصادية قائمة على الاستغلال والتمييز ضدّ المرأة العاملة من حيث أنواع العمل والأجر الذي يكون أقلّ من أجر الرجل حتى لنوع العمل ذاته، كما يتمّ استغلالها جسدياً ونفسياً إن وجدت فرصة للعمل، فتصبح لقمة عيشها مرهونة برفضها أو قبولها لهذا الاستغلال الشنيع. ولا يقف حدّ تأثير الوضع الاقتصادي على المرأة في هذا الجانب فقط، بل يتعدّاه إلى استفحال ظاهرة الفقر والبطالة وما ينتج عنهما من غلاء فاحش وآثار اجتماعية وصحية أخرى خطيرة لا شكّ ستترك آثارها البغيضة على المرأة أولاً باعتبارها الحلقة الأدنى والأضعف، ولأنها مُعيل إمّا رافد للرجل أو أساسي إن كانت وحيدة ومسؤولة عن آخرين كالأبناء والإخوة والأهل في مجتمعات تفتقد للعدالة الاجتماعية، بل ويسودها تفاوت طبقي حاد يؤدي إلى الاستغلال بأبشع وأفظع صوره وأشكاله التي تطول الحلقات الأضعف في المجتمع والمرأة أحدها وأهمها لما تُلاقيه من استغلال جنسي قسري أو شبه إرادي قد تلجأ إليه بعد أن أُوصِدَت بوجهها كل أبواب العمل الطبيعي والشريف، وهذا ما يعرفه الناس أو يصفونه بالدعارة التي تضع المرأة تحت وطأة ورحمة أحكامهم الجائرة بحقها دون النظر وعميقاً إلى الأسباب التي دفعتها لمثل هذا السلوك المُشين والمرفوض بكل المعايير والاتجاهات. هذا في الوضع الطبيعي لتلك المجتمعات، فكيف سيكون الحال إن شهد المجتمع حروباً ونزاعات قد تستمر سنوات وسنوات بكل ما تحمله من تبعات ومآسٍ تكون المرأة أحد أدواتها حين يتمّ استغلالها لإهانة الخصم وإذلاله من خلال حالات الخطف والاغتصاب حيناً، أو عندما تنهار المنظومات كلها بسبب تلك الحروب التي تسحق الحياة برمتها، فكيف سيغدو حال المرأة التي تمّ اغتصابها أو وجدت نفسها وحيدة بعد رحيل الرجال للحروب خالية الوفاض من كل شيء في مواجهة قدرها ومن معها لتأمين الحدّ الأدنى للبقاء على قيد وجود مُغمّس بالذل والهوان والحاجة والعوز، وجود مؤطّر بالفقر والبطالة التي تغتال كل إمكانية لوجود عمل شريف بأدنى حدوده، ولم يبقَ أمام المرأة سوى جسدها وسيلة وحيدة وأخيرة للإنتاج وتلبية احتياجات الأسرة بمفهوم اقتصاد الحروب الخالية من كل قيم إنسانية وأخلاقية.

هنا، ألا يجب علينا النظر إلى الوضع الاقتصادي والأمني المتردي والمُنهار بشكل عام، والأسباب الكامنة وراء انجراف المرأة في طريق الدعارة بسببه كما أسلفنا، نظرة أعمق وأشمل قبل إطلاق الأحكام الأخلاقية عليها؟ وهل يمكننا بعد كل هذا أن نطلق حكماً اخلاقياً على عمل المرأة في الدعارة؟ قبل إطلاق الحكم، علينا أن نعي ونُدرك جيداً أن لجوء المرأة للدعارة في أيّ زمان ومكان لا شكّ خلفه أسباب قاهرة دفعتها إليه قد لا يمكننا في هذه الفسحة التعرّض لها.. وعليه، أرى أن الدعارة بحدّ ذاتها ومنذ ظهورها في المجتمعات البشرية كأقدم عمل مأجور للمرأة، ليست أكثر من عنف مُستَتِر وظالم بحق المرأة عبر التاريخ وحتى يومنا هذا.       

العدد 1104 - 24/4/2024