كيف سيبدو العالم بعد وباء كورونا؟

د. منير الحمش:

هذا العنوان هو السؤال الذي وجهته مجلة (الفورين بوليسي) إلى نخبة من المفكرين والسياسيين، وذلك في 20/3/2020، أي بعد حوالي أربعة أشهر من ظهور الوباء لأول مرة في الصين، ثم انتقاله إلى جميع أنحاء العالم.

وقد استعرت العنوان، لأنه لا يزال مطروحاً، وربما بأكثر حدة وتوتراً نتيجة للمعاناة من الوباء وتداعياته في علاقات الأفراد في المجتمع الواحد، وعلاقات الدول فيما بينها، فضلاً عن تأثيره المباشر على الاقتصاد.

وقبل أزمة (كوفيد 19) كان العالم يمر بأزمات متعددة سواء داخل كل دولة أو في علاقات الدول الإقليمية والعالمية. وتكمن أزمة ما قبل كورونا، في إصرار الولايات المتحدة على التمسك بهيمنتها على النظام العالمي والتسبب بقيادتها للعالم، وسعيها الحثيث لفرض جدول أعمال سياسي واقتصادي على دول وشعوب العالم.

وهذا يشكل باختصار الجانب الإمبريالي في سيطرة منطق الغاب والسوق والمغامرة بحياة الشعوب من أجل تحقيق مكاسب آنية لصالح قوى السوق الغاشمة والاستمرار في نهب شعوب العالم، لضمان التوسع الرأسمالي، الإمبريالي المعولم، ترسيخاً لفكرة تراكم الثروات لدى الأقلية وانسحاق الطبقات المتوسطة والسعي إلى المزيد من إفقار الفقراء.

وعندما جاءت جائحة (كوفيد 19) أضافت عاملاً جديداً إلى الأزمة العالمية، فقد أظهرت هذه الأزمة الجديدة، عجز الأنظمة القائمة عن مواجهة أزمات أخرى قادمة، وتعميق الآثار الكارثية لتداعياتها. وهنا توجهت الأنظار والأفكار إلى دور ووظيفة الدولة، وإلى مدى قدرتها وملاءمة النظام الصحي لمتطلبات مواجهة الجائحة وتداعياتها.

وكتب العديد من المفكرين والسياسيين والعلماء حول الأزمة، وتوزعت الاهتمامات بين تحليل الأزمة وبيان وقائعها اليومية المتحركة من يوم إلى آخر، من جهة، ومن جهة ثانية كيفية مواجهتها والحد من انتشارها، وإيجاد اللقاح المناسب والتوصل إلى بروتوكولات المعالجة. كما كان الاهتمام كبيراً في تحليل الآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية على الأفراد والمجتمع، وعلى علاقات ذلك كله بالأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسات التي تنظم العلاقات الدولية.

إن أزمة (كوفيد 19) ليست الأولى في تاريخ البشرية الصحي، فقد تعرضت البشرية لهجمات وبائية عديدة عبر التاريخ، أودت هذه الهجمات بملايين الضحايا، ولكن ما يميز هذه الأزمة اليوم هو اختلاف الظروف، وتعدد العوامل وتشابكها، وهي تحصل والعالم يشهد تقدماً هائلاً في العلوم والتكنولوجيا والمعرفة إلا أنه يقف عاجزاً أمام هذا الوباء.

ومن المفارقات اللافتة أن هذا الوباء يأتي في وقت تعاني فيه الرأسمالية العالمية من أزمة حقيقية وركود عميق، وقد أثبت الوباء الجديد، عجز الأنظمة الرأسمالية عن مواجهته، وفي الوقت الذي تعتبر حرية الانتقال والحرية الفردية من ركائز النظام الرأسمالي، فإن إجراءات الحكومات لمواجهة تداعيات الوباء، تفترض في جانب منها فرض قيود على الانتقال وعلى حرية الفرد فضلاً عن فرض قيود تعتبر في الحالات العادية تعدّياً على حقوق الإنسان. وقد أظهرت الجائحة بوضوح فشل الأنظمة الصحية في جميع البلدان بدرجات متفاوتة، وأظهرت أيضاً أهمية دور الدولة، إلى جانب وظائفها التقليدية، في مجالات الصحة والرعاية الاجتماعية.

كما تبيّن عجز الدولة (وحدها) عن مواجهة الوباء، مما يؤكد من جديد أهمية التعاون الإقليمي والدولي، فضلاً عن تنامي الشعور بأهمية الوعي المجتمعي، وتعاون مختلف القطاعات في التصدي لتداعيات الوباء. ولما كان الوعي المجتمعي يفترض مستويات متقدمة من العلم والمعرفة – فإن الأمر يحتاج إلى وقفة مراجعة لأنظمة التربية والتعليم ونشر الثقافة، ولما كان ذلك كله يحتاج إلى مستوى (معقول) من الدخول، والتوقف عند ظاهرة الفقر والتفاوت في الدخول، وتركز الثروة، لهذا فإن من الهام إعادة النظر بالسياسات الاقتصادية، وإقامتها على أسس من العدالة وتكافؤ الفرص والمساواة وإلغاء التمايز بين الناس ورفع مستوياتهم الثقافية والعلمية، مما يساعد، ليس فقط على التصدي للوباء، وإنما أيضاً من أجل إقامة مجتمع متقدم وصحي قادر على مواجهة مثل هذا الوباء وتداعياته على الحياة الإنسانية.

والآن.. وبعد مضيّ حوالي عشرة أشهر على ظهور هذا الوباء، وبعد أن وصلت الإجراءات الحكومية المتخذة في دول العالم إلى حالة من الارتباك غير المفهومة في مثل هذه الحالات. أراني أعود إلى تناول الموضوع، من خلال سؤال مجلة (فورين بوليسي).

كيف سيبدو العالم بعد وباء كورونا؟

 ولعل من الإنصاف والموضوعية، أن نعود إلى إجابات بعض المفكرين والساسة على سؤال المجلة، رغم أن مقالات وآراء وتعليقات عديدة (من آخرين) غمرت وسائل الإعلام والاتصال فضلاً عن إصدارات مراكز البحث والدراسات في العالم.

وقد تركزت الإجابات التي نشرتها المجلة حول القضايا والعناوين التالية (أوردها مختصرة):

1 – فشل الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، في قيادة العالم، وتحول المعرفة إلى الصين ودول جنوب شرق آىسيا.

2 – سيتغير النظام العالمي وتوازن القوى على نحو كبير.

3 – انتهاء نظام العولمة الاقتصادية والاعتماد المتبادل. والبحث يجري عن سلاسل توريد محلية.

4 – نسف القواعد الحالية لعمليات التصنيع والإنتاج العالمية.

5 – فشل المؤسسات الدولية في القيام بدورها الذي كان متوقعاً في التحذير والتنسيق للحد من الأزمة.

6 – توقع تفكك الاتحاد الأوربي بعد فشله في مواجهة الأزمة.

7 – المزيد من الانكفاء على الداخل وتراجع القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك.

8 – التركيز على مفهوم الحكومة المركزية وتعزيز قوتها وقبضتها دون معارضة.

9 – قوة الروح الإنسانية ونجاحها في مواجهة الخطر.

10 – المنتصر في الحرب ضد كورونا هو الذي سيكتب التاريخ ويحدد المستقبل.

والاستنتاج الأخير المعبّر هو:

إن العالم سيكون: أقل انفتاحاً، أقل حرية، أكثر فقراً.

وأهم ما لفتني من إجابات، قول (جون آلين) وهو جنرال أمريكي ومدير معهد بروكنجز، إن الأزمة ستعيد تشكيل هيكل القوى العالمي، بطرق يصعب تخيّلها، وسيستمر هذا الفيروس في الضغط على النشاطات الاقتصادية وزيادة التوتر بين الدول. وعلى المدى الطويل، سيُخفض الوباء من القدرة الإنتاجية للاقتصاد العالمي، كما سيتعرض النظام العالمي لضغط كبير ينجم عنه عدم الاستقرار وخلافات بين الدول وداخلها.

كما ركزت إجابة (ريتشارد هاس) وهو دبلوماسي أمريكي سابق، على توقع الانكفاء نحو الداخل لعدة سنوات بعد كورونا، والبحث عن الاكتفاء الذاتي، وعدم الرغبة في مناقشة القضايا الخارجية. وأفضلية تخصيص الموارد للتعافي من الأزمة، والتعافي يحتاج إلى دولة قوية، لذا ستجد العديد من الدول صعوبة في التعافي مع ضعف الدولة، وتصبح الدولة الفاشلة أكثر ضعفاً وانكشافاً.

كما كانت إجابة (كيشور محبوباتي) وهو أكاديمي ووزير خارجية سنغافورة سابقاً. لافتة في تركيزها على التحولات التي ستجري في العالم ابتداءً من عولمة تتمحور حول أمريكا إلى عولمة تتمحور حول الصين، إلا أنه يرى أن ذلك لن يغيّر أساسيات الاقتصاد، فالشعب الأمريكي فقد إيمانه في العولمة والتجارة الدولية (مع الرئيس ترامب أو دونه)، بينما الصين لم تفعل.

ويرى (ستيفان والف) وهو أكاديمي سياسي أمريكي، إن فيروس كورونا سيقوي مفهوم الدولة، ويعزز القومية وقبضة الحكومات التي فرضت إجراءات استثنائية للسيطرة على الفيروس، وسيكون من الصعب أن تتخلى عن سلطاتها الجديدة بعد انتهاء الأزمة. كما يرى أن كورونا سيجعل من انتقال القوة والتأثير عالمياً من الغرب إلى الشرق، بعد نجاحات كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وتجارب الصين (مع أخطائها الأولى) في حين أن الغرب لا يزال يتخبط مما أدى إلى تلطيخ سمعته.

خارج إطار ما طرحته (فورين بوليسي) كان هناك العديد من المطالعات والمداخلات والتطبيقات من مفكرين وساسة في العالم، مما يشير إلى ما قاله جوزيف ستيغلتز (الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل) ، إذ قال إن فيروس كورونا المستجد لم يعبأ بالدولة الوطنية، وأصبح يشكل مشكلة عالمية، وهذا الأمر يتطلب حلاً عالمياً.

ومن وجهة نظر اقتصادية يرى (ستيغلتز) أن الدول النامية ستعاني أكثر بكثير من الاقتصادات المتقدمة، ويستند في ذلك على تقرير الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الصادر في 30/3/2020 الذي ألح على أن دول الاقتصادات الناشئة التي تعتمد على التصدير (بسبب انكماش الاقتصاد العالمي) سوف تعاني من تراجع توقعات الاستثمار العالمي وأسعار السلع والمواد المصدرة.

كما أن البلدان النامية ستجد صعوبة في تأجيل سداد الديون المستحقة. وكانت مجموعة العشرين قد عقدت قمة افتراضية (26/3/2020) وأصدرت بياناً تعهدت بموجبه بـ(اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات واستخدام جميع أدوات السياسة المتاحة للحد من الأضرار الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الجائحة واستعادة النمو العالمي والحفاظ على استقرار السوق وتعزيز القدرة على الصمود).

ولتحقيق هذه الغاية، يرى (ستيغلتز) انطلاقاً من خبرته السابقة ومن أن (الدولة) أيّ دولة لا تستطيع أن تعيش في جزيرة معزولة عن محيطها:

أولاً – تحقيق الاستفادة الكاملة من حقوق السحب الخاصة التي يوفرها صندوق النقد الدولي. مما يسمح بمساعدة الدول الأكثر احتياجاً دون الإضرار بميزانيتها الوطنية.

ثانياً – الإعلان عن وقف خدمة ديون الاقتصادات الناشئة و النامية.

الصحة تاج على رأس الاقتصاد؟!

يمكن القول ببساطة إن اقتصادات العالم تضررت، على هذا النحو أو ذاك، فنتيجة انتشار جائحة فيروس كورونا، ووفقاً للمحللين الاقتصاديين، فإن ركوداً عالمياً دورياً، كان يتخمر قبل كورونا، وأصبح بها وبعدها أشد وضوحاً.

     ويكفي المرء أن يلتفت حول نفسه، ليرى فداحة ما حصل، قبل كورونا بسبب ممارسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة وسياسات الانفتاح الاقتصادي، ثم تأكد وتأصل معها وبعدها. في إطار الهيمنة الإمبريالية وسياسات الدول الإمبريالية ومن تداعيات المواجهة مع وباء كورونا. ففي الولايات المتحدة (التي تصر على أن اقتصادها هو أعظم اقتصاد في العالم) يعاني الاقتصاد الأمريكي من صدمة مفاجئة وشديدة، إذ فقدَ حوالي واحد من كل خمسة أشخاص ساعات العمل أو الوظائف، الفنادق فارغة، شركات الطيران توقف رحلاتها، المطاعم والشركات تغلق أبوابها، الأعمال تتعطل والنشاط الاقتصادي تسرب إليه الوهن، ولم يعد قادراً على المبادرة. فإذا كان هذا هو الوضع في الاقتصاد (الأعظم) في العالم، فما هو حال الاقتصادات الأخرى؟! من المؤكد أن الاقتصادات المتقدمة تضررت وسيكون عليها المرور بفترة أطول لاستعادة عافيتها، ولكن الاقتصادات الناشئة والنامية، سيكون ضررها أكبر.

وقد نشرت جريدة (نيويورك تايمز) في 19/4/2020، أن عدد الذين يقدمون طلبات المعونة ضد البطالة في الولايات المتحدة ارتفع من 3.3 ملايين إلى 6.6 ملايين، والآن بمقدار 12.13 مليوناً آخرين، ويرتفع معدل البطالة الأمريكية بنحو 0.5% يومياً، مما يؤدي إلى وصول معدل البطالة إلى 30% بحلول الصيف. وهذه كارثة اقتصادية (كما تقول الجريدة).

وبناءً على تقرير صندوق النقد الدولي (14/4/2020) فمن المتوقع حدوث   انكماش في الاقتصاد العالمي هذا العام بنسبة 30% ويقول الصندوق إن الاقتصاد العالمي سيعاني (على الأرجح) أسوأ أزمة مالية منذ الكساد الكبير. والجدير ذكره أن توقعات الصندوق كانت في مطلع هذا العام تبشر بارتفاع النمو العالمي بنسبة 3.3%. وبالمقابل يتوقع الصندوق حدوث انتعاش (جنوني) عام 2021 ولكن بشرط تراجع انتشار الكورونا خلال هذا العام، ولا أعتقد أن ذلك سيحصل، فنحن الآن في الشهر الثامن من العام، ولا تبدو في الأفق علامات مبشرة حول استعادة الانتعاش. وفي حديثها لشبكة (NBC) تقول كبيرة اقتصاديي الصندوق (جوبيتات) إن الصدمة الحالية أزمة لا مثيل لها من حيث الحجم والسرعة في انهيار النشاط الاقتصادي الذي أعقب (الإغلاق) وهو أمر لا يشبه أي شيء شهدناه في حياتنا.

وفي آخر تقارير الصندوق يتوقع أن ينكمش الاقتصاد الأمريكي بنسبة 5.9% هذا العام، كما يتوقع أن ينكمش اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 7.5%.

وقد دار نقاش واسع في جميع البلدان حول ما إذا كان من الأفضل اللجوء إلى خيار (التباعد الاجتماعي) والحجر والإغلاق العام، مما يؤدي إلى تعطيل النشاط الاقتصادي، أم تترك الأمور دون تقييد مع التركيز على الخدمات الصحية.

وانطلاقاً من المصالح الاقتصادية لكبار الأثرياء، وتحت تأثير قرب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، أعلن الرئيس الأمريكي (ترامب) أن (معالجة الأزمة يجب ألا تكون بشكل يضر الشعب الأمريكي أكثر من الأزمة نفسها) مما يعني التخلي عن سياسة الإغلاق والتباعد الاجتماعي، ولكن بالمقابل كان رد الرأي العام الأمريكي الشعبي يتمحور حول: لن نموت من أجل (وول ستريت)! وقد عبّر العديد من الأمريكيين عن ذلك بمظاهرات ارتبطت مع التنديد بسياسة العنصرية التي يتبعها ترامب فضلاً عن الاستياء من أولويات (ترامب) التي تضع سوق الأسهم فوق حياة المواطن الأمريكي وسلامته، كما عبر المتظاهرون عن معارضتهم لسياسة الرئيس الأمريكي التي توجه الدعم الحكومي للشركات والمؤسسات المالية الكبرى على حساب المواطن.

لكن الإدارة الأمريكية لم تعبأ بمعارضة سياساتها الاقتصادية، وخاصة أنها لم تأخذ بالاعتبار الرأي المعارض لسياستها في مواجهة أزمة كورونا، والذي كان يرى (عن حق) أن تخفيف القيود يعني (أنك تختار الاقتصاد أساساً) على حساب الناس، وأن عودة الجميع إلى العمل يعني (موت) الناس بأعداد كبيرة.

ويقول بعض خبراء الاقتصاد الأمريكان إنه إذا رفعت قيود العزل الاجتماعي فإن الولايات المتحدة ستشهد في آخر العام الحالي 160_ 210 ملايين شخص مصاب و 200 ألف إلى 1.7 مليون حالة وفاة.

كوفيد 19 والرأسمالية:

يعتبر بعض المفكرين الاقتصاديين أن أزمة كوفيد 19 تمثل خطراً حقيقياً على الرأسمالية، وبالمقارنة بين هذه الأزمة وأزمة 2008، يرى هؤلاء أن أزمة 2008 كانت بمثابة صدمة داخلية وباطنية أصابت النظام الرأسمالي، في حين أن أزمة كوفيد 19 كانت صدمة خارجية للرأسمالية ضربت الإنتاج والاستهلاك في آن واحد، وجاءت في وقت لم تتعافَ فيه بعد الرأسمالية من أزمة الانهيار المالي التي واجهها النظام عن طريق ضخ تريليونات الدولارات من الأموال الجديدة، التي لم تتحول إلى استثمار فعلي في الاقتصاد الحقيقي، مما أوجد انفصالاً ما بين السيولة المتاحة (التي خلّفها الإصدار الهائل للعملات دون تغطية) والاستثمار الفعلي، وبالتالي فقد أحدث ذلك انفصالاً ما بين عالم المال وعالم الاقتصاد الحقيقي، ومن بين النتائج الهامة لهذه الحالة: تصاعدت قيمة الأسهم في حين كانت الربحية منخفضة مما أحدث الفقاعة الاقتصادية والمالية. وفي هذا الوقت يدخل كوفيد 19 فيفجّر تلك الفقاعة ويخلق أزمة جديدة للنظام الرأسمالي النظام الرأسمالي:

ولكننا لا نستطيع القول إن النظام الرأسمالي قد انتهى، في ظل غياب بديل فاعل وممكن، وسوف تجد الرأسمالية من الأساليب والآليات التي تجعلها قادرة على تجاوز الأزمة كما واجهت أزمات سابقة، الكساد العظيم وأزمة الركود التضخمي، وقد كان هذا شأن الرأسمالية دائماً، فهي قادرة على استنباط الأساليب التي تواجه بها أزماتها وتجدد فيها أساليبها وآلياتها، ولكن من المؤكد أن هذه الأزمة ستترك ندوباً من الصعب التئامها سريعاً ما لم يتم معالجة بعض القضايا، ومنها مواجهة حالات الفقر والعوز لدى الشعوب، وردم الهوة السحيقة في دخول الأفراد، وما بين الدول ومواجهة المشكلات البيئية وقضايا المناخ. ولكن قبل ذلك ما لم تتخلَّ الرأسمالية تحت نزعتها الدائمة للاستئثار وتكديس الأرباح على حساب الشعوب، وهذا أمر لا يمكن المراهنة عليه، حتى تتوفر الشروط الموضوعية للتغيير، الأمر الذي يتطلب على نحو رئيسي أن تغيّر الشعوب من آليات تعاملها وتفاعلها مع الأنظمة والأزمات في ظل التقدم الحاصل في التكنولوجيا وتقنيات الاتصالات والمعرفة عموماً. وفي ظل التغييرات التي أحدثتها أزمة كوفيد 19، وخاصة من جهة دور الدولة، والأنظمة الصحية والاجتماعية ودور المجتمع المدني، وما أثارته هذه الأزمة من تساؤلات حول النظام الدولي والأنظمة الإقليمية ودور الدولة.      

وإذ أوضحت الأزمة عدم قدرة الدولة على القيام بواجبها دون مساعدة ودون تعاون مع الدول الإقليمية، فضلاً عن التعاون الدولي، فإنها أيضاً أوضحت أهمية التعاون والتكاتف المجتمعي داخل المجتمع الواحد، وهذا يتطلب حسّاً وطنياً وإنسانياً عالياً، ووعياً مجتمعياً متقدماً.

سورية والأزمة:

الأزمة في سورية الآن، مركبة ومتشابكة، وتمثل أزمة (كوفيد 19) البؤرة الخصبة لتفاعل مجموعة أزمات ومشكلات تعانيها سورية وشعبها واقتصادها منذ سنوات.

فسورية اليوم من الناحية السياسية حائرة بين نظام يحاول المحافظة على مرتكزاته، وجيوب (من المعارضات) خلقتها الدول الإقليمية والدولية، مستغلة انطلاقة موجة من الاحتجاجات المطلبية في أنحاء متفرقة من البلاد، استطاعت القوى الطامعة أن تشق طريقها بين شقوق الاحتجاجات، فزرعت فصائل مسلحة وشعارات غريبة عن المجتمع السوري، تسلل من خلالها الإرهاب التكفيري، وأوجد له موضع قدم في مجتمع جرى تفكيكه تحت سياط الطائفية والجهوية والعشائرية والفقر والجهل.

وقبل الأحداث (2011) كانت الأزمة الاقتصادية قد بدأت تفعل فعلها بسبب السياسات الاقتصادية الليبرالية والسوق المنفتحة (والمنفلتة)، فأحدثت انقسامات واضحة في المجتمع إلى جانب ما أحدثته سياسة الانفتاح التجاري على الخارج (وخاصة تركيا) من إغلاق الآلاف من الورش والمعامل، وما نجم عن ذلك من بطالة أمدّت الفصائل المسلحة بالمقاتلين.

أحدث هذا الوضع في البداية تدخلات خارجية اقتصرت على المساعدات اللوجستية والمالية والإمداد بالأسلحة للفصائل الإرهابية. إلا أنها تحولت فيما بعد إلى تدخلات عسكرية مباشرة، أسفرت عن خلق وقائع مادية على الأرض في شرق الفرات والجزيرة، وفي شمال البلاد وإدلب، وفي الجنوب السوري والبادية. وبقيت سورية (المفيدة) عرضة للمساومات والمصالح الإقليمية والدولية.

ضمن هذه التشكيلة (السوريالية)، شق (كوفيد 19) طريقه إلى قلب المجتمع السوري الذي يتعرض لأقسى حصار اقتصادي يصل إلى درجة الخنق، مما أدى إلى صعوبات معيشية واقتصادية ونقدية، وفي هذا الوقت تمعن الولايات المتحدة في توغلها وترعى تنظيماً إرهابياً يسعى لخلق كيان (كردي_ كلدو آشوري مع بعض القبائل العربية) كان الاستعمار الفرنسي قد عمل عليه في ثلاثينيات القرن الماضي.

وهي تعمل الآن على تثبيت وقائع جديدة من خلال إقامة قواعد عسكرية واستثمار النفط السوري ونهب الثروات الزراعية، وتسعى تركيا من خلال مشروعها الإمبراطوري على تثبيت مواقعها في شمال سورية، وكعامل مؤثر سياسياً في أي حل قادم.

وعلى التوازي تعمل إسرائيل من خلال مشروعها الصهيوني على شن اعتداءات أصبحت روتينية على الأراضي السورية، بهدف تثبيت مواقعها في الجولان المحتل، وإيجاد دور سياسي إقليمي دولي، على حساب الشعب السوري والفلسطيني. في مقابل ذلك تعمل كلٌّ من روسيا وإيران، الحليفتان إلى جانب بعض الفصائل الموالية، على مساندة الجيش العربي السوري على استعادة السيادة على الأرض السورية. ولا يزال إلى اليوم هناك العديد من الفصائل المسلحة تعمل على إشاعة الاضطراب وعدم الاستقرار، وبضمن ذلك تنظيم (داعش) الذي يتخذ من البادية السورية منطلقاً له. ويعاني الاقتصاد السوري من أزمات متلاحقة، إضافة إلى ما سببته السياسات الليبرالية المتخذة قبل الأحداث، والتي تتمسك بها الحكومات المتعاقبة، وتجيء العقوبات الاقتصادية (وآخرها قانون قيصر) والحصارات الاقتصادية، والعمل الحثيث لمنع الحل السياسي من أن يرى النور، فتزيد من حالة تأزم الاقتصاد، الذي يعاني الآن من ارتفاع الأسعار والغلاء وارتفاع سعر صرف العملات الأجنبية، ومن البطالة والتضييق على سبل عيش المواطن، فضلاً عن انسداد أفق الحل السياسي.

وسط ذلك كله يأتي (كوفيد 19) فيزيد معاناة الشعب، ويزيد من ارتباكات الحكومة التي تفتقد أهم أدواتها لمواجهة الوباء ألا وهو الضمان الصحي، فضلاً عن عدم القدرة على حل المشكلات المعيشية والبطالة، وسوء الإدارة ومكافحة الفساد، وقد كشفت أزمة كورونا عن هشاشة النظام الصحي، وعن ضعف الجهاز الحكومي، وقلة موارده وإمكانياته.

وإذا كان العديد من الأصوات تنادي بوقف إطلاق النار، فإن ذلك لا يكفي، بل لا بد من السير في العملية السياسية وإيجاد حل سياسي للمشكلات المستعصية. وهذا يتطلب فهماً متبادلاً ووعياً بالمسؤولية الوطنية والاجتماعية لدى جميع الأطراف.

فضلاً عن هذا، فإن عملاً جاداً يجب أن يتوجه لتوحيد الصف الداخلي، وإشاعة أجواء المصالحة الوطنية مع تحقيق العدالة الانتقالية، ولابد من السعي لكسب التعاون على المستوى الإقليمي العربي، وعلى المستوى العالمي، وبضمن ذلك الاستفادة القصوى من الدعم الذي يمكن أن تقدمه المنظمات الدولية والدول الصديقة.

لا شك أن ما ألمحنا إليه يحتاج إلى جهود استثنائية وعقول استثنائية وإرادة استثنائية، لمواجهة حالة تراكمية من الأزمات والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، ذات الأبعاد السياسية. فلتكن أزمة كورونا فرصة لإعادة ترتيب الأولويات ولمّ شمل المجتمع، وإعادة الصفاء للعلاقات العربية، ونبذ كل ما يسيء إلى تاريخ الشعب العربي السوري ومستقبله، ويُعيد لسورية ألقها ودورها العربي والدولي، ولعل البداية السليمة تكون بإزالة حالة الاستعصاء التي تعترض العملية السياسية. والشعب العربي السوري مدعو اليوم إلى العمل الجاد لتحويل أزمة كوفيد 19 إلى فرصة، لإعادة بناء سورية العربية من جديد، وعلى أسس جديدة أساسها العدالة والمساواة، واحترام الرأي الآخر، وبناء الدولة وعلاقات المجتمع بالدولة وعلاقات الأفراد فيما بينهم على أساس القانون والتكافؤ. والعلاقات المدنية والاجتماعية. والمواطنة، وممارسة المواطن حقه في الحياة والتنمية والحياة الحرة الكريمة، والمحافظة على حقوق الأجيال القادمة، على نحو يجعل بالإمكان مواجهة خطر الوباء وتداعياته إلى جانب المخاطر الأخرى، وذلك كله من خلال عقد اجتماعي جديد.           

العدد 1104 - 24/4/2024