مؤشرات توحي بعودة الإقطاعية بثوبها الجديد

محمد علي شعبان:

حقق التجار في سورية انتصاراً كاسحاً، في مسيرتهم خلال عقدين من الزمن، وهم حققوا انتصاراً مزدوجاً على السوريين، بكل أطيافهم وانتماءاتهم الطبقية بشكل عام، وعلى الطبقة الوسطى بشكل خاص، إذ جرى الإجهاز عليها وتحويلها لفقراء، باستثناء بعض النوعيات الخاصة التي تمكّنت من الالتحاق بالطبقة الرأسمالية التي تضاعفت ثروتها عشرات المرات، عما كانت عليه قبل الأزمة التي حلت ببلداننا.

1- لقد حققوا انتصاراً على شعب أعزل، جريمته أنه مسالم وجاهل.

2- وحققوا انتصاراً على السلطة، وقسموها قسمين: القسم الأول شاركوه، وجعلوه ينفذ مطالبهم.

والقسم الثاني حيّدوه بأشكال مختلفة وجعلوه أقلّ فاعلية.

ونتيجة الانتصار تتشكل حكومات لخدمة التجار على حساب لقمة عيش الشعب، ويصبح الإنتاج المحلي خاسراً بسبب السياسات الخاطئة، التي تنتهجها الحكومة بما ينسجم مع مصلحة التجار والرأسماليين الكبار.

من يصدّق أن السوريين يستوردون البصل والبطاطا والثوم والعديد من المواد الأخرى، بعد أن كانوا يصدّرون آلاف الأطنان لدول الجوار من هذه المواد؟!

بالتأكيد إن السبب في ذلك هو سياسة الحكومة تجاه الزراعة، وإهمالها لهذا القطاع الهام، الذي يحقق الأمن الغذائي لا لسورية وحدها فقط، بل أيضاً لسورية ومعها عدد من البلدان بجوارها.

ورغم الحصار والتضييق على هذا القطاع، مازالت قوافل برادات الخضار والفواكه، تعبر الحدود، باتجاه بيروت، والأردن، ودول الخليج العربي.

فالقطاع الزراعي قطاع حيوي بالنسبة للأمن الغذائي، وللصناعات الزراعية، التي اشتهرت فيها سورية لعدة عقود من الزمن، وقد كان الخيط السوري والمنسوجات السورية، متميزة على مستوى العالم. فعوضاً عن دعم القطاع الزراعي والعاملين فيه، جرت محاصرته والتضييق عليه، وإجباره على الإفلاس والتوقف عن نشاطه الزراعي إلا بحدود ضيقة.

ولن ننسى الحرير السوري الذي كان ينافس الحرير الفرنسي بجودته.

لماذا أُهمل هذا القطاع الهام، وأصبح السوريون يستوردون العديد من حاجاتهم الضرورية، في حين كانوا ينتجون ما يكفيهم ويصدرون الفائض لدول الجوار؟!

لماذا توقفت زراعة القطن السوري، الذي كان يقدم المواد الخام لمعامل الغزل والنسيج، التي تشغل آلاف العمال والعديد من المصانع والورش الصغيرة؟!

كيف يتفهم المواطن السوري، أن كيلو اللبن الواحد تجاوز سعره الألف ليرة سورية، وأصبحت مشتقات الحليب حلماً للعديد من الأسر السورية؟ بعد أن كانت موجودة في كل بيت وبمتناول جميع الطبقات الاجتماعية وبأسعار رخيصة جداً!! في ذلك الوقت حين كانت سورية تقدم مشتقات الحليب واللحوم الى بعض البلدان المجاورة!

لقد قاطع ملايين السوريين اللحوم والأسماك نتيجة ارتفاع الأسعار الجنونية لهذه المواد، وبقيت حكراً على طبقة بعينها تعيش ترفاً وتتنعم بالخيرات، وتفرض ما تريد على الفقراء الذين لم يتمكنوا من توفير بيض الدجاج لأبنائهم!

إن الإهمال المتقن للقطاع الزراعي ليس له مبررات، سوى إفلاس القائمين عليه وإفقارهم، واجبارهم على بيع ممتلكاتهم التي تشكل رصيدا وطنياً، وانتقال هذا الرصيد إلى أيدي التجار الذين ساهموا بصناعة الأزمات بغية استثمارها، وعودة الملكية لهم لتشكيل إقطاعات جديدة بأشكال مختلفة عن الإقطاع السابق.

 كيف يقتنع المواطنون السوريون أن أزمة الكهرباء طبيعية وقد عاشوا عشرات السنين دون تقنين، في الوقت الذي كانت سورية تعطي الكهرباء لبعض البلدان المجاورة؟!

وهو يعرف جيداً، أن البنية التحتية لشبكات الكهرباء، من مولدات، وأبراج، وشبكات توصيل، وعدادات، جاهزة وفي حالة جيدة منذ سبعينيات القرن الماضي؟!

إن شبكة الكهرباء في سورية نبع جارٍ من الأموال لا يحتاج سوى للوقود اللازم لتشغيل بعض المحطات الحرارية.

وهل تخسر شركة السكك الحديدية في تشغيل القطارات، إذا كانت تحتاج لمادة الفيول فقط، ما دامت السكك الحديدية جاهزة منذ بداية القرن الماضي والقطارات العاملة موجودة لا تحتاج إلا لصيانة بسيطة.

لن أتحدث عن هجرة العقول على أهميتها، ولن أتحدث عن حصار العقلاء وتجويعهم نتيجة السياسات الاقتصادية الجائرة، التي كادت تفرض التسول على العديدين من أبناء المجتمع.

أريد التذكير أنه في القرن الماضي حين كان التعليم مجانياً، ليس كما هو الآن، كانت تقدم الوجبات لمعظم المدارس في سورية. وكانت وجبات غنية ومغذية للطلاب وللمدرسين.

ولم يكن حينذاك مكان للتعليم الخاص، فقد أغلقت العديد من المدارس الخاصة التي كانت موجودة في النصف الأول من القرن الماضي.

نعم، كان المدرسون يقدمون المساعدة لطلابهم في أيام الجمعة، وخارج أوقات الدوام الرسمي، لكن دون أجر، وكان المدرسون في الأسبوع الأول قبل امتحانات الشهادات يستنفرون مع طلابهم، ليقدموا لهم الدعم المعنوي، والمعلوماتي، وكانوا يرافقونهم إلى مراكز الامتحانات التي كانت في المدن أو البلدات الكبيرة.

إن ما يجري من تنفيذ سياسات اقتصادية جائرة بحق القطاع الزراعي وباقي القطاعات الإنتاجية، من إهمال وتضييق، هو خدمة حقيقية لمن يريدون تدمير القطاع العام، وخصخصته، لصالح بعض التجار الذين يفتعلون الأزمات بالتواطؤ مع بعض ذوي النفوس الضعيفة الموجودين في مواقع المسؤولية بغية العودة بسورية إلى المرحلة الإقطاعية بأثواب جديدة بعد إجبار الفلاحين على بيع ممتلكاتهم من الأراضي بسبب عجزهم عن تمويلها، وإهمال وزارة الزراعة وتقاعسها عن تقديم الدعم الكافي للفلاحين، وتركها لهم فريسة ضعيفة لطبقة التجار التي تتحكم بلقمة عيش الفقراء الذين دفعوا فلذات اكبادهم دفاعاً عن الوطن.

فهل يتنبه الحريصون على ضرورة دور الدولة المركزية القوية، في حماية القطاع العام، من الخطر القادم من التجار الذين أفقروا العباد، وأفلسوا البلاد؟!

العدد 1102 - 03/4/2024