نجدت يوسف (أبو ضياء).. المناضل المثال
نبيه جلاحج:
كلما كانت حياة المناضل أغنى بالتضحية والعطاء، كان رحيله خسارة أكثر فداحة للقضية التي نذر حياته من أجلها. ولم تكن سيرة نجدت يوسف (أبو ضياء) سوى مسيرة نضال دائب من أجل قضايا الوطن والشعب، ومصالح الجماهير الشعبية الكادحة، من خلال نشاطه في صفوف الحزب الشيوعي السوري، طوال عشرات السنين من حياته منذ مطلع شبابه في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي.
ولد نجدت يوسف عام 1933 في القنيطرة عاصمة الجولان، ونشأ وترعرع في عائلة زراعية فقيرة، فقد عمل والده يوسف (تحقاقة) في الفلاحة أحياناً، وفي جمع الأعلاف للحيوانات، واستخراج الرمل من الأرض وبيعه في السوق أحياناً أخرى. واتصفت هذه العائلة بالتآلف والحنان العائلي والعلاقات الطيبة والودية فيما بينها، ومع الجيران من عرب ومسيحيين ودروز. ويعد أبو ضياء اليوم آخر الراحلين من هذه الأسرة المكافحة، إذ سبقه بالرحيل أخوه القائد الشيوعي الفذ مراد يوسف، عام 2008، كما توفيت منذ أشهر قليلة شقيقته الأصغر المناضلة في صفوف الحزب والحركة النسائية سعدية يوسف، وكذلك جميع إخوته وأخواته الأكبر والأصغر منه، وأذكر منهم شقيقته الطيبة الذكر أم فايز جلاحج.
عرفت هذه العائلة ببيئة تهتم بالسياسة والمواقف الوطنية، فوالده كان معادياً للاحتلال الفرنسي لسورية، ومنحازاً للثورة السورية وللحركة الوطنية ضد الفرنسيين، ومع الثورة الفلسطينية ضد الإنكليز، ومع الاتحاد السوفييتي ضد هتلر، وقد رفض الانتساب إلى الفرقة الشركسية الخاصة التي شكلها الفرنسيون في حينه. وقد كتب نجدت في معرض نقله عن أخيه مراد أنه (من الوالدين وطريقة تعاملهما في الحياة مع الناس تشرّبت المفاهيم الأساسية، ومنها حب العمل والجلد على شظف العيش، وحب المعرفة، والانتماء إلى العمل الاجتماعي، والنزوع إلى مساعدة الآخرين، والاهتمام بالسياسة، والتعامل مع الأحداث المحلية والوطنية والعالمية. وفي بيتنا الفقير كانت تعقد السهرات وفيها يدور النقاش حول كل الأشياء، وحياة الفلاحين وشؤون المعيشة والعمل، وحالة المواسم وأسعار الحنطة والشاي وحطب الوقود، وعن أحداث الثورة السورية الكبرى والثورة الفلسطينية.. وكل ذلك في الغرفة نفسها التي نستعملها في الشتاء مكاناً للطبخ والأكل والوضوء والنوم واستقبال الضيوف الأقربين).
كان نشاط الشيوعيين قد بدأ في القنيطرة منذ أواخر الأربعينيات، إذ يذكر أحد الماركسيين الراحلين القدامى (قحطان بدر الدين كغدو) أنه كان يحضر من دمشق وأحياناً من بيروت رفاقٌ شيوعيون منهم فوزي الشلق ورشاد عيسى ونجاة قصاب حسن.. ويجولون في بانياس والقرى الجولانية، وفي عام 1945 افتتح مكتب للحزب في القنيطرة، وتكون فيها رعيل من الشيوعيين الأوائل. وقد استشهد أحدهم في فلسطين عام 1948 وعُثر في جيبه على بطاقة عضوية في الحزب الشيوعي.
وفي مطلع الخمسينيات تشكّلت حسب ذكريات مراد يوسف فرقة حزبية في القنيطرة من الرفاق (مفيد بشارة، مهدي صوقار، وفكرت رجب)، والأخير كان في عداد الرفاق الذين اعتقلوا أيام المباحث السراجية، وصمد في سجن المزة خلال ثلاث سنوات من الاعتقال.
في عام 1953 انتقل نجدت يوسف مع أخيه مراد إلى دمشق، وتشكلت في هذه الفترة حول مراد يوسف مجموعة من الشباب الشراكس الذين تجمعهم الصداقات الشخصية والهموم المجتمعية والميول اليسارية والوطنية بشكل عام، وكانوا يجتمعون حسب ما يذكر مراد يوسف في ذكرياته في بيت الشيوعي القديم صلاح جلاحج، وكان نجدت يوسف أحد أفراد هذه المجموعة، التي أصبح معظم أفرادها في مطلع الخمسينات من القرن الماضي أعضاء في الحزب الشيوعي السوري ومن بينهم نجدت يوسف نفسه.
غلب على نشاط (أبو ضياء) لسنوات طويلة بعد انتسابه للحزب طابع العمل السري في المهمات التي يكلفه بها الحزب، سواء في نقل الرسائل الحزبية أو المطبوعات أو تأمين البيوت السرية للرفاق في فترات الملاحقات الأمنية أو الصلات الخاصة، وغير ذلك مما أبعده عن العمل في الهيئات القيادية العلنية لفترات طويلة. وكان يقوم بجميع تلك المهام بكل إخلاص ودقة.
عمل نجدت يوسف ونشط في منظمة دمشق لغاية إرساله للدراسة في موسكو عام 1972. وانتقل بعد عودته من موسكو إلى منظمة القنيطرة حوالي عام 1976، وانتُخب عضواً في لجنتها المنطقية عام 1986 وبقي فيها حتى وفاته في 22/11/2010.
الجدير بالذكر هنا أنه كان لهذه المنظمة دور هام في أعقاب حرب 1967، فقد حدث نزوح كبير للأهالي من القنيطرة إلى دمشق، ونشأ عن ذلك الكثير من المشاكل المعقدة للناس، فكان أن نشط رفاق المنظمة في تقديم شتى أنواع المساعدة للنازحين، سواء في السعي في تأمين المأوى، أو الاحتياجات المعيشية وغيرهاـ كما عملت المنظمة من خلال الحزب وأصدقائه لإرسال عدد من الشباب للدراسة في الاتحاد السوفييتي وبلدان اشتراكية أخرى، مما ساعد على تحسين سمعة الاتحاد السوفييتي في الوسط الشركسي.
كان أبو ضياء حريصاً دائماً على حضور جميع الاجتماعات الحزبية سواء لمنظمته أم اجتماعات الكادر الموسعة التي كان يدعى إليها. وكان له صوت خاص ومميز في أي من هذه الاجتماعات، فهو المتطلب الصريح والجريء في قول رأيه من خلال المداخلات التي كان يقدمها، وكانت تتميز بروح انتقادية بناءة من أجل تطوير عمل الحزب في جميع المجالات سواء التي تتعلق بموقف الحزب السياسي من هذه القضية أو تلك، أم الخاصة بحياة الحزب الداخلية. وقد اعتبر أن الديمقراطية داخل الحزب هي الأساس في حياته الداخلية، وأنه من غير المقبول أن ندعو إلى الديمقراطية خارج الحزب ونحن لا نمارسها داخله، ولذلك دعا دائماً إلى توسيع الحوار داخل الحزب إلى أقصى مدى معتبراً أنه الطريق السليم من أجل التوصل إلى قرارات صحيحة ومقنعة لجميع أو أغلبية الرفاق على الأقل. وقد ترفّع دائماً خلال فترة الخلافات والانقسامات الحزبية التي جرت في العقود الماضية عن المهاترات الشخصية، وكان محبّاً ومحترماً لجميع الرفاق الشيوعيين على اختلاف آرائهم ومواقفهم. لم يكن يكره أو يحقد سوى على أعداء الوطن والشعب.
حين نشأت الخلافات داخل الحزب الشيوعي السوري قبيل المؤتمر الثالث للحزب (1969) كان نجدت يوسف في صفوف الجناح الذي تزعمه خالد بكداش ويوسف فيصل آنذاك، كما كان بين الرفاق الذي شكلوا تنظيم (منظمات القاعدة) مع الرفاق مراد يوسف وفايز جلاحج وزينب نبوه وآخرين. إلا أنه وبعد انقسام الجناح الذي قاده الرفيق يوسف فيصل عن جناح (خالد بكداش) وتوحّد (حركة اتحاد الشيوعيين) مع فصيل (يوسف فيصل) في المؤتمر السادس للحزب (29_ 31/ كانون الثاني 1987) وطموحاً نحو إعادة توحيد الحزب، عُقد المؤتمر السابع التوحيدي (تشرين الأول 1991) الذي جرى فيه توحيد فصيل (يوسف فيصل) مع (منظمات القاعدة) وكان نجدت يوسف في صفوف هذا الحزب الشيوعي السوري الموحد، وقد لعب هو بالذات دوراً نشطاً وفعالاً في عملية التوحيد التي تم التوصل إليها آنذاك.
اتسمت شخصية (أبو ضياء) بخصالٍ نادرة قل أن تجتمع في شخص واحد. وأهمها أنه كان إنساناً طيب القلب إلى أبعد الحدود، ذكياً، بسيطاً، عفوياً، خلوقاً، دمثاً، صادقاً مع نفسه ومع الآخرين، مخلصاً ودوداً في علاقته مع رفاقه داخل الحزب ومع أصدقائه خارجه، لم يعرف الكذب والتملق، عاش حياته فقيراً وزاهداً في مباهج الحياة، كما كان متواضعاً لم يطمح ولم يسعَ يوماً لأي منصب سواء داخل الدولة أم في المسؤوليات الحزبية، رغم تمتعه بالجدارة والكفاءات التي تؤهله لذلك. كان شغوفاً بالمعرفة وحب المعرفة، مثابراً بالقراءة على تنوعها.
ترك أبو ضياء الدراسة وانهمك في العمل باكراً، وقد عمل في مجالات عديدة من بينها ميكانيكياً في سكة الحديد، وعاملاً في (شركة قاسيون) ثم في (شركة الأعمال الإنشائية). وفي جميع الميادين والمجالات التي عمل فيها، كان مثال النشاط والنزاهة والتعاون مع العاملين معه، كما يذكر رفاقه الذي عملوا معه. وحين أرسل للدراسة في موسكو عرف بكثير من الجدية في الدراسة سواء في المعهد المهني في موسكو خلال عامي 1972ـ1973 أم في المدرسة الحزبية هناك في عام 1974.
رافق أبو ضياء بل وشارك شقيقه مراد يوسف جميع مراحل حياته سواء الشخصية أم الحزبية، وقد كان الصديق الأكثر قرباً منه وخاصة في السنوات الأخيرة من حياته، حين ساءت حالته الصحية كثيراً، فكان إلى جانب رفيقه وشقيقه أبو جولان، لمساعدته في شؤون حياته اليومية لآخر لحظة من حياته.
فُجع الرفيق نجدت يوسف في بداية الأزمة السورية بخسارة ابنه البكر الشاب (ضياء) الذي فُقد في البحر أثناء محاولته الهجرة إلى أوربا، وخلفت هذه المأساة جرحاً عميقاً في قلب أبو ضياء بقي نازفاً حتى غادر هذه الدنيا وهو يحمل أساه معه. وقد سعى جهده خلال حياته وفي علاقته مع حفيدته ابنة ضياء (سيلين) أن يعوّضها باهتمامه وحنانه بها عن فقدان أبيها. كان نجدت يوسف معتزّاً بشركسيته وبتقاليدها وعاداتها، إلا أن أبرز ما كان يتحلى به هو وطنيته السورية المخلص لها إلى أقصى الحدود، مما يحفزه إلى عداء وحقد مقيم لا هوادة فيه على جميع أعداء الوطن من إمبرياليين وصهاينة ورجعيين.. وكان حلمه الذي لم يغب عنه لحظة واحدة هو تحرير جميع أراضي الوطن السوري من محتليه وفي مقدمة ذلك الجولان الذي بقي معشّشاً بعمق في قلبه.
حياة الناس البسطاء ومعيشة الجماهير الكادحة والفقيرة كانت همّه اليومي، مما جعله ناقماً بكل ما في قلبه من حقد على قوى الاستغلال والفساد بجميع أشكالهما، وعلى كل من يساعد على بقائهما وتغذيتهما. مما عدّ معه النضال ضد هذه القوى بجميع الوسائل مهمة أساسية من مهام الحزب النضالية التي لا يجوز المساومة فيها. وهو اعتبر في الوقت ذاته أن القيام بهذا الدور يتطلب مجالاً أرحب في ميدان الحياة السياسية داخل البلاد بحيث تغدو معها الديمقراطية هي أساس الحكم في البلاد.
وقد بقي نجدت يوسف شيوعياً ملتزماً بجوهر الماركسية اللينينية، مع الدعوة إلى العمل الفكري الجاد من أجل فهمها بعمق وتطبيقها على الواقع الملموس لبلادنا على نحو إبداعي ومتطور. كما عاش ملتزماً بالحزب سياسة وتنظيماً مع سعيه الدائم إلى تطوير عمله في جميع المجالات بنظرة نقدية بناءة. حضر نجدت يوسف المؤتمر الثالث عشر للحزب الذي انعقد في تشرين الأول 2019، وكان من أكثر مندوبي المؤتمر نشاطاً فقد ألقى العديد من المداخلات الهامة في مناقشة جميع التقارير السياسية والاقتصادية والفكرية والتنظيمية التي قدمت في المؤتمر، وقدّم الاقتراحات الملموسة حولها. ولم يرشح نفسه في هذا المؤتمر إلى أي منصب قيادي.
لقد كنت غالياً جداً يا رفيقنا الراحل أبا ضياء.. العزاء لزوجتك ورفيقة عمرك أم ضياء، ولولديك (سوسر) و(نور)، ولأحفادك ولعائلتك ولحزبك ولمنظمة القنيطرة خاصة ولرفاقك في الحزب وأصدقائك ومحبيك الكثر.. حيّاً ستبقى في ذاكرة الجميع وقلوبهم.. ونبراساً وضّاءً لجميع المناضلين من أجل حرية الوطن ومستقبل سعيد لشعبنا!