ماذا عن مستقبلنا؟
يونس صالح:
نحن الآن في مطلع القرن الحادي والعشرين، قرن الاتصالات السريعة والتقنية المتقدمة، فماذا عن مستقبلنا؟
من المعروف لدى شعوب الأرض قاطبة أن العادات القديمة تموت بصعوبة، وكلما كانت هذه العادات والقيم قريبة إلى ضمائر الناس، صعُب التخلص منها، ومن أهم القيم والعادات التي يبدو أننا نتمسك بها: النفور الشديد من قراءة المستقبل، وربما كان لهذا النفور علاقة بما ترسّب في ضميرنا من أن قراءة المستقبل نوع من التنجيم المذموم الذي لا يصدق في جميع الأحوال، وربما كان ذلك راجعاً إلى حرصنا على أن نعيش الحاضر ونترك المستقبل يأتي وكما يأتي، فهو يوم لغيرنا وليس لنا.
إلا أن الدراسات المستقبلية قد فرضت على العالم، وأصبحت يوماً بعد يوم علماً يتعدى التوقعات والاحتمالات، إلى إمكانية الحدوث والتبلور، وأصبح (علم المستقبل) يحظى باهتمام أكبر وأوسع انتشاراً بعدما تحول في أواخر القرن الماضي من مجرد فروض واجتهادات فكرية، إلى جهود علمية منظمة تدعمها وتمولها مؤسسات علمية لها أهميتها، وأصبحت الأسئلة والقضايا التي تطرحها تتداول في وسائل الإعلام وتصل إلى كل بيت.. من بعض تلك القضايا الهامة: قضايا مثل (الانفجار السكاني) الذي يخيف العالم، وينذره، ومنها قضايا (الغذاء) التي أصبحت تتبلور أكثر فأكثر في موجات المجاعة التي تضرب بعض دول العالم الثالث، ومنها أيضاً قضايا التنمية، والطاقة والمواد الخام، وكانت الإجابات عن معظم تلك الأسئلة تقود إلى الخوف والفزع من المستقبل.
صحيح أن هذا الخوف والفزع قد جعل بعض الكتّاب يتجه إلى الطرف الآخر، وهو الاستبشار، ورسم صورة وردية للعالم في المستقبل، مما جعل موضوع (المستقبلية) مشكوكاً فيه لدى كثيرين.
وبصرف النظر عن هذا التطرف أو ذاك، فإن المستقبل ودراسته العلمية أصبحت بالنسبة لنا قضية ملحّة، بعد أن تحولت التوقعات إلى علم ينير للكثير من الشعوب طريقها القادم.
إن علم المستقبل اليوم يسعى إلى اكتشاف أفضل الظروف والإمكانات والطرق والوسائل التي تمكّن المجتمع من الوصول إلى الأهداف التي يبتغيها، وهو يقوم على قاعدة تقول إن جزءاً كبيراً من المستقبل قد تحدد بما أُنجز اليوم، أو أُنجز بطريقة سلبية وسيئة، أو بما لم ينجز قط خلال الفترات الماضية في مسيرة أي مجتمع.
بمعنى آخر، إن ما نفعله وما نخطط له اليوم سيقودنا إلى شكل من أشكال المستقبل، وما لا نفعله اليوم وما لا ننجزه أو ما ننجزه بطريقة سيئة أيضاً، سوف يحدد ذلك المستقبل.
إذاً، فـ (المستقبلية) على عكس ما يتبادر إلى الذهن، لا تصدر تنبؤات، وإنما يتحدد هدفها في تخيّل مستقبل مرغوب فيه، واقتراح طرق ووسائل واستراتيجيات لتحويل هذا المستقبل المرغوب فيه إلى مستقبل ممكن.
لقد دخلنا في الدراسات الاستراتيجية من باب ضيّق، من باب الاهتمام الشخصي لدى بعض المفكرين بتلك القضية، وقليلون أيضاً دخلوه من باب الترجمة والنقل من النتائج الفكرية لمؤسسات غربية وشرقية.
إننا مع الأسف لم ندخل إلى هذا الموضوع من باب المؤسسات العلمية كالجامعات ومراكز البحث، لذلك فإن الدعوات الفردية لقراءة المستقبل عندنا واستشرافه، مازالت محصورة ومحدودة بين دفات الكتب، ولم تصل إلى صانع القرار عندنا بعد.
إن ما تجمّع من دراسات لصورة مستقبلنا، سواء من الدراسات الأجنبية أو الدراسات القليلة عندنا، لا يترك مجالاً للشك بأنها صورة قاتمة، يمكن تلخيصها في قصر المدى في أهداف الحكومات المتعاقبة، وسيطرة الأحلام على أهداف المثقفين. إنها قصور في المشاركة من جهة، وعدم وضوح خطط تنموية مستقبلية، وإذا لم يوجد وعي بما يجب أن نختار اليوم، فإن غيرنا سوف يحدد مستقبلنا.
لذلك فإن الاهتمام بالمستقبل يعني الاهتمام بالإنسان، ليس في حاضره فقط، وإنما في مستقبله، وحتى أولئك الذين قالوا في مراحل سابقة بالاهتمام بالاقتصاد والتنمية، وجدوا أن هذا الاهتمام لا يعني شيئاً إن لم يواكبه اهتمامٌ بحقوق المواطن المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أي إن هناك صلة وثيقة بين صورة أفضل لمستقبل البلاد، والمشاركة الشعبية.
إن ضعف المشاركة الشعبية التي تتسم به معظم التنظيمات الاجتماعية في بلادنا، يفسره البعض بضعف ثقة الجماهير في العقائد الاجتماعية السياسية المطروحة من جهة، ومن جهة أخرى ضيق فرص مشاركة السكان في اتخاد القرارات، ويتزامن كل ذلك مع ضغط الظروف الاقتصادية على الجماهير. إن كل ذلك ينعكس سلباً على ضعف الإحساس بالانتماء ومعاناة الاغتراب، وغياب الحافز الأهم في الإنتاجية الاجتماعية الاقتصادية، لذلك فإن التحدي المستقبلي الأول والأهم هو الوصول إلى صيغة في المشاركة تتبناها الجماهير عن اقتناع.
إن المستقبل تُبذَر بذرته في الوقت الحالي، ومن لا يبذر الآن، فعليه ألا يتوقع حصاداً.