طفولة على قارعة الطَّريق
غزل حسين المصطفى:
من غيبوبة شرودي سحبتني جملته حين قال: (نحن مو ملاقيين نطعمي ولادنا، وفيه ناس عم تتبروظ!)، ضارباً بيديه في الوقت ذاته على مقود السَّيارة.
ولأنَّني كنتُ أجلس في المقعد المجاور لذلك السائق كان يمكنني أن أتابع ذلك المشهد الذي وقعت عينُه عليه وأشعل غضبه:
كانت صبيّة بكامل أناقتها تتمايل بحركاتها وصوتُ ضحكتها يخترق ضجيج منطقة البرامكة ظهراً، إذ كانت مفتونةً بمنظر كلابها الخمسة، فراحت تُلاعبهم وتضاحكهم وتلتقط معهم الصور.
وقبل أن يبدأ عقلي بحديثه المعتاد، استدركتني ذاكرتي وأخذت بيدي إلى صيف 2005.
حين حملت صوصي الأصفر الصغير من مدينة دمشق إلى مدينة سلمية في ريف محافظة حماة.
لم أقبل أن أساوم ما بين السفر في عطلتنا الصيفية والتخلي عنه، وبقائي في البيت، فاضطرّوا أن يرضخوا لعنادي. كنت أريد أن يبقى تحت رعايتي وحمايتي خوفاً عليه من شر قطّةٍ شرسة قد أفقدتني قبله كثيراً من أمثاله، وبقيت على موقفي رغم ما سمعته من جمل تبخس منه ومن أن سعره حينذاك كان 5 ل. س.
طريق السّفر يومذاك وكيف اتخذت القرار وتفاصيلُ أُخرى رسمت ابتسامتي لثوانٍ عدة، قبل أن يعود السائق إلى تمتماته الممتعضة من أمور الحياة ويقطع عليّ عزلتي بصوته العريض.
لم أعطه سمعي، فأنا مواطنةٌ مثله في هذه البلاد وقد حفظت القصة وعشت كلّ أجزائها.
رحت أُفكر بموضوع الصراع الطبقي، الذي يتخذ في كل زمانٍ ومكان حلةً جديدةً عبر التاريخ.
لا صكوك ملكية، ولا عِصيٌّ نُساس بها، ولكن تضعك المعطيات أمام صور عدة تُجبرك على خوض مقارنة ما بين أشياءٍ كثيرة، من جملتها:
طفلةٌ صادفتها يوماً، مازالت خطواتها الأولى غير مُتزنة، كادت السيارة تدهسها لو لم تكن حركتي قد سبقت ذلك، وقفت أبحث عن ذويها، حتى ظهرت من بعيد سيدة ممشوقة القوام تحمل على رأسها أغراضها، والواضح أنها حامل، حين اقتربت مني أكثر تبيّن أنها والدة الطفلة، وقفت فالتف حولها من الأطفال تسعة، فتبيّن لي أنها في كل عام تضع مولوداً، وعندما حدثتها بما حصل وتمنيت العمر الطويل للطفلة، أمسكت طفلتها وضعتها على الأرض وقالت لأولادها: انتبهوا إلى بعضكم البعض، وعند الغروب تعالوا إلى المنزل!
صدقاً صعقتني، بهذه البرودة واللامبالاة.
لماذا تنجب؟ ألترميهم في الشارع؟!
أين أمومتها!؟
ما الذي جعل الشارع مصدر أمان لها؟!
ما بين تلك الأم التي لم تُحرك ساكناً مثلاً وأُناس يحجزون في العيادات الخاصة من أجل الكشف الدوري على حيواناتهم الخاصة، تقف مذهولاً لتسأل: أين نحن!؟
أسئلةٌ كثيرة وصور واقعيِّة طالعتني، كنت أستشيط منها غضباً.
حملت جهازي النَّقال، أحدّث طلال (ابن عمي) عبر تطبيق (واتساب)، حكيت له كل ما يدور في ذهني من مشاهد وعرّجت على نقطة الطَّبقات والفارق الطبقي، وطلبت منه أن يُحدثني من صلب اختصاصه عن الانعكاس النفسي للفارق الطبقي على الفقراء، وما يخلّف هذا التباين من صور أو أمراض نفسية في المجتمع، خصوصاً أننا اليوم مثلاً نشهد حيوانات تفترش أفخر السجاد في المنازل، ورُضّعاً على أبواب الجوامع أو على طرف الطريق.
كيف تنهال علينا عشرات المنشورات على موقع (فيسبوك) لمواصفات حيوان ضائع يبكيه أصحابه، وفي الوقت ذاته قد نجد آخر يعرض صورة لطفل لم يعثروا على أهله؟!
والمشكلة أنه قد لا يُعثر على أهله، فربما رموه تخفيفاً من العبء المادي.
ها هي تلك الأم ترمي بطفليها في نهر دجلة!
وقبل أن يُجيب متعجّب مُعتقداً أنني، في حديثي السابق وخلال المقارنة غير المباشرة التي عقدتها بين الأمور، أرمي اللوم على الأغنياء وأصحاب الأموال في عيشة الفقر الأسود الذي يعيشه بعضهم، وأحمّل الأغنياء ذنباً لا ناقة لهم فيه ولا جمل، إذ هم يعيشون حياتهم متمتعين بنعمهم.
وضّحت له موقفي وبيّنت أنّني لم أقصد ذلك.
أكمل حديثه: دعينا نتفق في بداية الحديث أن تربية الحيوانات المنزلية لا تعني بالضرورة الترف، قد تكون شغفاً وحباً شخصياً، لكن ظروف البلاد حتّمت علينا النظر إليها على أنها رفاهية بل وأكثر من ذلك.
وربما يتخذ بعضهم تربية الحيوان من باب أنها تفصيل إضافي في مظهره الاجتماعي، حباً بالظهور والتميز.
وبالنسبة للقضية الأكبر وهي (الطبقية) فالموضوع تاريخي مستمر، ولتكوني على بيّنة هناك كُثر ممن يؤمنون بفكرة (مين رضي عاش) لا يشعرون بأيّ أعراض تُنغّص عليهم استمرارية حياتهم.
وبالانتقال إلى التشرد والأطفال وحالهم، القضية ليست جديدة علينا، لكنها باتت منتشرة بكثرة تبعاً للوضع الاقتصادي للبلاد عموماً والانحطاط الأخلاقي كذلك ، وقد سلّطت مواقع التواصل الضوء بشكل أكبر عليها.
لا يمكننا أن نتحدث اليوم عن قضية ما بشكل منفرد، القضايا متشابكة تفسد لفساد الأساس، وربما إن صلُح الأساس نلمس الفرق.
ولكن يا غزل لماذا تبحثين وراء تلك المواضيع، فتجلبين لنفسك التَّعب النفسي والقلق؟! (والله التفكير بيقصّر العمر!).
والحديث عن الموضوع لن يغير شيئاً ما لم يؤمن أفراد المجتمع بأن تلك القضية تستوجب الحل، وأن عليهم الوقوف في وجهها، أي علاج حقيقي فعلي جماعي.
توقفنا عن النقاش وربما حتّى الآن ما زلت أتأرجح بين عدة أفكار ومعطيات وصور، لذلك لم تتكون صورة واضحة بالنسبة لي عن الموضوع.
وبقي السؤال يتردد صداه: هل تبلورت حقوق الحيوان واندثرت قضية حقوق الطفل أو الإنسان!؟