رغم الفقر.. لا بدّ من المواجهة
محمد علي شعبان:
الأجواء الجميلة تنعكس على وجوه البشر وسلوكهم، وهكذا الأجواء السيئة، لذلك من الطبيعي أن نشاهد ملامح الكآبة، وانعكاس النفسيات المدمرة والمعنويات المحبطة، على وجوه الغالبية العظمى من السوريين بشكل عام وعلى وجوه الفقراء بشكل خاص، كما تنتشر الفوضى المرافقة للبؤس عند غالبية طبقات المجتمع.
وكلنا يعرف الأسباب، لكن ليس بمقدورنا أن نفعل شيئاً، ونحن في هذه الحالة من العبثية واللامبالاة التي تسيطر علينا وتتحكم جزئياً في سلوكنا.
وحدهم تجار الأزمات وداعموهم يتحكمون بضحكة الأطفال، وبقلق الآباء والأمهات، وبأحلام الشباب والشابات وبمستقبلهم.
يتحكمون بتأوهات المرضى وأنينهم، ودرجات عذاباتهم، ما داموا يسيطرون على الطبابة وشركات الأدوية دون رقيب أو حسيب.
كيف تحول هؤلاء إلى متحكمين بلقمة العيش؟ ومن كان خلفهم؟ وما هي أدواتهم؟ وهل يستطيع الفقراء أن يفعلوا شيئاً، بتغيير المعادلة، والحد من وحشية أولئك المتحكمين؟
أعتقد بأن كل أزمة من الأزمات تحمل بين طياتها مفاتيح حلولها، لكن الأمر يحتاج إلى كوادر خاصة، تستطيع أن تستخدم المفاتيح بطريقة صحيحة، تحول الأزمة إلى فرصة.
فكيف تتحول الأزمة إلى فرصة، في ظل حالة التردي العام على كل الأصعدة؟
بالتأكيد، إن وعي أسباب الأزمة، وتوظيفاتها ومآلاتها، تكشف عن نقاط القوة، ونقاط الضعف فيها، فيصبح من السهل البحث عن أدوات وآليات لاختراقها.
لقد تعود جميع المنتجين والصناعيين، والتجار والحرفيين، إجراء مراجعات أسبوعية، أو شهرية، يتمكنون بها من تقييم سلوكهم ونشاطهم، ويحددون نسبة الربح ونسبة الخسارة، ليتمكنوا من وضع برامج جديدة تساعدهم في مواجهة التحديات والتغلب عليها، ومضاعفة إنتاجهم، وهذا أحد أسباب نجاحهم.
إلا أن السياسيين في بلادنا غير مجبرين على تنفيذ هذا الإجراء، لأسباب عديدة، لا مجال لذكرها الآن. ولن يستطيع أحد إخفاء علاقة التجار العضوية بالسياسيين بمستويات مختلفة.
لذلك نجد حالة التنمر من قبل بعض التجار بحكم طبيعة العلاقة القائمة بينهم، وبين أطراف في السلطة والحكومة.
لهذا السبب تصبح مهمة الفقراء أكثر صعوبة، وأكثر تعقيداً، لا تختلف عن صعوبة مخاصمة القاضي الذي يلعب دور الخصم والحكم.
لكن ليس أمامهم وأمامنا خيارات سوى المواجهة وما تقتضيه من تكتيكات، رغم الصعوبات التي سنتعرض لها جميعاً.
أعتقد أن سلاح المقاطعة للعديد من المواد غير الضرورية هام جداً في هذه الظروف الصعبة، لكننا بحاجة إلى معرفة كيف نقاطع، ومن نقاطع، ومتى نقاطع، ذلك لأن سلاح المقاطعة قد يؤدي وظيفة عكسية، إذا لم نبتدع بدائل جديدة تساعدنا في تأمين السلع والمواد التي نحتاجها.
من عاش في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي يعرف جيداً كيف كان السوريون يحققون الاكتفاء الذاتي، من جميع الحاجات الأساسية والضرورية، حين كانت سورية بلد الخيرات. حينذاك لم يكن الشبس والديربي والأندومي، والعصائر الملونة، تملأ الأسواق وتجمع أموال الفقراء.
إن أكثر بلدان العالم التي يمكنها تحقيق الأمن الغذائي، رغم الأزمة التي تعصف ببلادنا، هي سورية.
لكن الأمر يحتاج إلى ثقافة جديدة تعتمد الإنتاج خياراً أساسياً، وتصنع ثقافته وتنبذ ثقافة الاستهلاك، التي سادت لمدة نصف قرن من الزمن، وساهمت بصناعة أجيال استهلاكية تشكل عائقاً حقيقياً في العديد من القطاعات الإنتاجية والخدمية، وقد ساهمت الدولة في ذلك عندما أعطت الاهتمام والأولوية للقطاعات الخدمية وأهملت القطاعات الإنتاجية، فقد اهتمت بالرياضة، وبناء المساجد، والسياحة الدينية، وأهملت بعض القطاعات الهامة، كالتعليم، والصحة والصناعة.
جميعكم يعرف أهمية لاعب كرة القدم، والامتيازات والنجومية التي يحصل عليها، والميزات التي يتمتع بها.
وجميعكم يعرف ما يتمتع به الفنان أو الفنانة سواء من الممثلين أو المغنين، مقارنة بباقي القطاعات الإنتاجية الهامة والضرورية.
هل يعقل أن يتقاضى الفنان، في ليلة واحدة، ما يعادل إنتاج أسرة تعمل في الزراعة وتملك عشرين دونماً من الأرض لمدة سنة كاملة؟!
وهل يعقل ان تكون أجرة لاعب كرة قدم في نادٍ من النوادي في السنة الواحدة تفوق إنتاج مئات الدونمات الزراعية لمدة سنة؟! وبالتغاضي عن امتيازات رجال الدين، الذين لا يقدمون شيئاً، سوى بعض الفتاوى التي تثير الأحقاد والضغائن بين أبناء الوطن.
لذلك ليس أمامنا كفقراء خيارات أبداً، الخيار الوحيد هو المواجهة.
وليس بمقدورنا مواجهة الأزمة المركبة بعقلية الاستهلاك، والانتظار والشكوى.
الشعوب التي تصمد وتستمر هي الشعوب التي تعمل في حقل الإنتاج. وتؤمّن اكتفاء ذاتياً كحد أدنى، والإمكانات متوفرة وتحتاج قليلاً من الدعم.
إن غالبية الشعب السوري يعمل خارج قطاع الإنتاج، ذلك أن قطاعات الإنتاج في سورية محدودة جداً.
أهمها: القطاع الزراعي، والصناعات الزراعية، والثروة الحيوانية، والدواجن.
وما زلنا لم نلتمس أن النفط داخل قطاعات الإنتاج، ما دام سعره هكذا.
وباقي القطاعات هي خدمية وغير منتجة إطلاقاً، وبعضها تعمل اليوم بآليات غير أخلاقية، كالصحة والتعليم، رغم أنها يجب أن تكون مجانية بالمطلق كما كانت في القرن الماضي.
فالعودة إلى قطاع الإنتاج ضرورة حياتية، لا تقل أهمية عن محاربة الاستهلاك وثقافته التي فعلت فعلها بمجتمعاتنا.
وجميع ما ذكرته يحتاج إلى وعي اجتماعي، ومسؤولية وطنية وأخلاقية. وهي بالتأكيد متوفرة عند البعض من أبناء الوطن، ويحاربها البعض الآخر.
لأن بنية المجتمعات هكذا.
تبنى على المصالح الطبقية وتشكل تعبيراتها السياسية. التي تحتاجها انطلاقاً من وعي الضرورة، وليس تقليداً بغية الاستعراض والشكلانية.
إن الأزمة المعقدة والمركبة التي تعصف بسورية، منذ تسع سنوات وعدة أشهر، قدمت العديد من الدروس، على جميع المستويات، الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية.
وأهم ما قدمته:
1-معرفة السوريين أن الدول الرأسمالية التي تدعي الديمقراطية، وحقوق الإنسان، هي دول كاذبة. وأثبتت التجربة السورية أن تلك الدول، التي تحالفت مع دول الرجعيات العربية، كان همها الأساسي تدمير الدولة السورية، أو إضعافها، بغية فرض إملاءاتها المتنوعة على سورية، للانتقاص من السيادة الوطنية لصالح الكيان الصهيوني.
2-كما اكتشف السوريون كذب حكام دول الرجعيات العربية ونفاقهم، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، وقد انكشفت علاقاتهم القديمة، مع الكيان الصهيوني.
3-انفضاح دور العديد من رجال الأعمال السوريين، الذين تبوؤوا المناصب وهم ليسوا مؤتمنين على المصلحة الوطنية من جهة، وعلى الاقتصاد الوطني من جهة ثانية.
فهل يستطيع الفقراء جمع قواهم وتشكيل إرادة وقوة سياسية، توسع الهوة بين تجار الأزمات المرتبطين عضوياً برجال السلطة والحكومة؟
أعتقد أن هذا هو التحدي الحقيقي الذي يجب العمل عليه، من قبل الطبقة المنتجة، بغية تقوية دور الشخصيات النظيفة الموجودة بالسلطة والحكومة من جهة، والتضييق والمحاصرة لتجار الأزمات الذين يتاجرون بلقمة عيش المواطنين وكرامتهم، وتشكيل وحدة عمل تخفف من الصعوبات التي يتعرض لها الفقراء.