محتلّو الشاطئ
صفوان داؤد:
يحدثنا عجوز أن شاطئ اللاذقية كان، يوماً من الأيام، شاطئاً جميلاً وفتاناً، مياهه نظيفة وإطلالته رائعة، وأنه مكان مفتوح وملكٌ للجميع. لكن مع مرور الأيام تغيرت الأوضاع وصار هذا المكان صعب المنال وأصبح بحر اللاذقية للأغنياء فقط، أما الفقراء فعليهم أن يشاهدوه على شاشة التلفزيون فقط. فماذا حصل حتى تحول هذا الشاطئ الذي هو بالقانون السوري ملكية عامة إلى شكلٍ من أشكال الملكية الخاصة؛ للأغنياء فقط؟!
اتجهت خلال العقد الماضي وزارة السياحة السورية إلى استثمار معظم الشواطئ المحاذية والمتاخمة لمدينة اللاذقية، وتحويلها دون استثناء إلى شواطئ مأجورة بما فيها تلك المخصصة للسياحة الشعبية، وطرحت للاستثمار معظم إن لم نقل جميع الإطلالات المتبقية على الشاطئ اللاذقاني، في شاطئ أليسار بمساحة 3 دونمات، وراميتا بمساحة 4 دونمات وفق صيغة التعاقد B.O.T. ووصل هذا التوجه إلى اقتطاع أجزاء من شاطئ وادي قنديل الذي يبعد حوالى 25 كم، ورأس البسيط 40 كم عن مدينة اللاذقية، وفي هذا الرأس البحري شديد التميز وُضع تحت الاستثمار موقع شاطئ ميرال (رأس البسيط شريحة 1) بمساحة 9 دونمات، وشاطئ جوان (رأس البسيط شريحة 2) 20 دونماً، وشاطئ ريفال (رأس البسيط الشريحة رقم 3) 9 دونمات، وشاطئ لمي (رأس البسيط شريحة ٤) 10 دونمات.
حُمّى الاستثمار وصلت حتى المسابح صغيرة الحجم بتعرفة دخول 1000 ليرة للشخص الواحد، لا تتضمن الطاولة أو المظلة الشمسية التي تبلغ أجرتها مثلاً في وادي قنديل 3000 ليرة.
ومع رفع الحجر الصحي منذ ما يقارب الشهرين ارتفعت أسعار الشاليهات ارتفاعاً جنونياً في المنتجعات القريبة من المدينة، ووصلت تكلفة حجز غرفة لشخصين متوسطة الخدمة والترفيه لليلة واحدة ما يعادل تقريباً الراتب الشهري لأستاذ جامعي. وخارج مدينة اللاذقية في شواطئ البسيط مثلاً، بلغت أسعار الأكواخ الشاطئية فيها قرابة 15 ألفاً لليلة الواحدة. وكانت وزارة السياحة قد أعلنت على موقعها أنها (خصصت في اللاذقية شواطئ شعبية لذوي الدخل المحدود بعد انتشار الغلاء بشكل كبير في الشواطئ الأخرى المُستثمرة من قبل القطاع الخاص)، وحددت السعر الرمزي بمبلغ 10 آلاف ليرة سورية، وهو مبلغ كبير جداً على ذوي الدخل المحدود!
وإذا كان هناك مكان لما يسمى منطقة شعبية، تراه مليئاً بالأوساخ، والخدمة سيئة أو معدومة، والاستغلال فيه معلن في أسعار المواد مثل الماء والطعام وبقية المتطلبات، والرقابة من وزارة السياحة أو وزارة التموين صامتة. والسؤال الذي يوجهه ذوو الدخل المحدود: هل تدرك الحكومة فعلاً مدى الفروق الكبيرة بين رواتب الموظفين والعاملين لديها، والأسعار التي وضعتها وزارة السياحة للأماكن الشعبية؟ أما أماكن السباحة المُعتبرة والتي تحقق الشروط المناسبة فقد أصبحت مع ما تبقى من أشياء جميلة، ملكاً للمتنفذين والفاسدين والمعفشين ورجال الأعمال حديثي النعمة.
لا يمكن أن نقول إن القدر شاء أن يعيش ابن مدينة اللاذقية واحدة من المفارقات الغريبة، أن يعيش ويفصله عن بحره كتل أسمنية ومنتجعات ومسابح هو لا يستطيع الدخول إليها. يعيش بالقرب من البحر، ولا يستطيع السباحة في شاطئه، بل حتى لا يستطيع رؤيته. هو يستطيع فقط أن يسمع أو يحلم به ولسان حاله يقول: تساوينا مع إخوتنا في محافظة حلب ودير الزور في قربنا من البحر.
إن السياسات الحكومية الفاشلة ومخططات التنظيم المدني التي تركت على الرفوف لعقود أو تم التحفظ عليها في أدراج متخذي القرار هي من أوصل مدينة اللاذقية إلى ما وصلت إليه. ويتذكر أهل اللاذقية كيف قام، خلال ثمانينات القرن الماضي، رئيس وزراء سابق وحكومته باغتيال الشاطئ الرملي الأسطوري لمدينة كانت بحق تعتبر عروس الساحل في شرق المتوسط، وقام بإغلاق كامل الواجهة البحرية للمدينة بحجة بناء المرفأ.
وخلال العقدين الماضيين كلما راح أهل اللاذقية يبحثون عن شاطئ كمتنفس لهم ولعائلاتهم، أسرعت الحكومات المتعاقبة بإغلاقه وإعطائه هبة استثمارية لأحد حيتان الفساد أو وكيل من وكلاءهم بشروط تسهيلية، فيحوله هو الآخر إلى شروط تعجيزية لدخوله. وتحت حماية القانون والتشريعات الاستثمارية يدخل كعضو معترف به بالقانون كعضو من نادي محتلي الشواطئ، مفتوحاً لأقرانه من محتلي الملكيات العامة الأخرى، ومغلقاً أمام المواطنين والعائلات محدودة الدخل بل وحتى متوسطة الدخل.
في الحقيقة إن معنى أنك ابن مدينة ساحلية أن تأخذ ابنك أو ابنتك في أي وقت لتسبح وتعود إلى بيتك سيراً على الاقدام، أنك أينما ذهبت ومتى شئت يمكنك أن ترى البحر. لكن ابن اللاذقية الآن أمامه صحراء وليس البحر المتوسط، صحراء من الكتل الأسمنتية، والأسى الأكبر أنه حُرِمَ من حقه الطبيعي، من جزء عميق وأساسي من شخصيته الثقافية والبيئية.