الدواء مؤمّن…

وعد حسون نصر:

(لن تموتوا لأجل حبّة دواء، نحنا لبعض، علبة دواء تكفي عشرة، المهم ما نموت).

شعارات وحملات أطلقها الكثيرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي وخاصّة عبر صفحات (الفيسبوك) عند انقطاع الدواء نتيجة الحجر والعقوبات وارتفاع سعر الصرف وفقدان المواد الأولية وعزوف بعض معامل إنتاج الأدوية عن الإنتاج بسبب ارتفاع المادة الأولية المستوردة ورخص سعر الدواء في السوق المحلية، الغاية من هذه الصفحات ومن هذه الشعارات أننا قادرون كشعب  على أن نعيش بعيداً عن كل العقوبات ولا نريد أن نموت لأجل حبة دواء، الغاية الإنسانية التي تجسّدت في هذا العمل تخبر العالم أننا رغم التشوّه المتراكم في نفوسنا خلال سنوات حرب طاحنة لم تلغِ حبنا للحياة وحبنا لرؤية بعضنا أحياء، فالبعض كان يعرض ظرفاً واحداً من الدواء فيه حبتان أو ثلاث فقط، ويكتب: ( من يريده يتواصل معي ويخبرني أين يقيم وبنفسي سوف أوصله له). فقد كانت أكثر الأدوية المعروضة والمتداولة: (دواء الغدة، القلب، الضغط والسكري). التشاركية الجميلة التي ظهرت في أفكار المجتمع السوري من أجل تأمين الدواء وتقديمه لكل محتاج تُخبر العالم بأن أرضنا مازالت خصبة، مع بضع بذور محبة تعود من جديد لتُزهر عطاءً وتنثر عطر الخير للعالم أجمع. لعلّ التكافل هو صونٌ لكرامة الإنسان من ذلّ السؤال للآخرين، لكن الرغبة بالبقاء جعلتنا نبحث ونسأل عن حبّة الدواء التي تكفل لنا أقلّ ما يمكن وجودنا على هذه الأرض، والمجتمع السوري في أزمة الدواء أثبت معدنه الأصيل، فقد كان كالجسد الواحد ما إن اشتكى منه عضو حتى تداعى باقي الجسد بالبذل والعطاء بلا مقابل، لذلك من الطبيعي أن نجد اجتماع أفراد المجتمع على المصالح المشتركة فيما بينهم، وأن يكونوا يداً واحدة ضدّ المعوقات الفردية والجماعية التي تواجههم، ويتّحدوا على دفع الضرر والمفسدة عن جميع أفراده، والوقوف على كل ما يواجه أفراد المجتمع الواحد، من مساعدة للمحتاج والضعيف، والنظر إلى كل من لديه حاجة خاصة، والوقوف إلى جانب بعضهم البعض كما حدث هذه الفترة  بعد فقدان الدواء اليومي الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وبات مفقوداً بشكل كلي وإن وُجد فسعره باهظ جداً، ويصعب على أصحاب الدخل المحدود شراؤه، هذا ما عبّر عنه السوريون ومن كل الأطياف، فقد ظهرت طيبتهم وتجاهلوا الخلافات وتشاركوا في تقريب وجهات النظر بينهم ليعيدوا الحياة لكل مريض ولو بحبّة دواء واحدة تفيض عن الحاجة. من الطبيعي أن تظهر هذه النخوة عند شعب اعتاد الحرمان مثلما اعتاد أن يختار التصدي والممانعة ويدفع ثمن اختياره هذا الحرمان والشُّح وفقدان كل مقومات الحياة، الشعب السوري واجه أزمات رافقته على مدى أجيال، ودائماً تكون المكافأة الحرمان أكثر فأكثر، لذلك من الطبيعي دائماً أن يكون شعور الجائع بالجائع أكثر وأشد من شعور الشبعان بالجائع، فمن وضع سدّاً بينه وبين المحتاج لا يمكن أن يرى ما وراء هذا السدّ، ومن فيّم زجاج سيارته لا يمكن أن يرى ما على جانبي الطريق.. فنظره دائماً للأمام لأن الخلف مؤلم وأطراف الطريق تُشتّت تركيزه عن الأمام، لذلك اختار هذا الشعب الصبور الحياة وتجاهل السدود المصنوعة لتزعزع الترابط الاجتماعي، واخترق كل السواد المصبوغ على زجاج سيارات العمالقة ومد يد العون لأقرانه من الشعب المسحوق رغماً عنه ليكونوا جسر النجاة لبعضهم البعض، فمازالت الحياة تستحق وجودنا ونحن خير سند لبعض، وحبّة دواء لن تفقدنا الحياة، وهنا رأينا الكثير ينشر ما لديه من دواء عبر صفحات التواصل ليتمكّن غيره من أخذ حاجته منها ودون ثمن، وهذا إن دلَّ على شيء فهو يدلُّ على رغبتنا بالبقاء، لأننا شعب ولج الحياة منذ بزوغ فجر التاريخ، مرّ الدهر علينا بكل سيوفه وعصوره وبقيت أعناقنا تواجه الموت وتتحدى حدَّ السيوف لتنبت مع الأمويين وتُزهر مع العباسيين وتتفتّح ورداً وتنشر عطرها مع الحمدانيين، وها نحن الآن خرجنا من خوازيق الأتراك ومقاصل الفرنسيين لنتخطّى ألغام الصهاينة ونتخطّى سيوف الإخوان ورايات الدواعش، فلا يمكن أن نموت من أجل حبّة دواء، لذلك كان شعارنا (الدواء مؤمّن للمحتاج) فنحن شعب اختار الحياة ويحب الفرح وله كل الحق أن يعيش.

العدد 1102 - 03/4/2024