نحو الدرك الأسفل
غزل حسين المصطفى:
بينما كنتُ أنتظر.
افترش الرصيف المجاور لي، وفتح كيساً أبيض كبيراً كان يحمله، بدأ يُخرج منه أكياساً صغيرةً عدّة، وهنا كانت المفاجأة، على الرغم من أن هيئته كانت واضحة وتوحي بالحكاية بأكملها، لكن لم أتوقع أن تكون محتويات تلك الأكياس هكذا.
كانت ثيابه باليه قد لوّنتها الظروف وعوامل الحياة في الشارع، كما أنها أوسع من مقاسه بعدّة أرقام، ووجهه يشي بقساوة الأيام التي قوّست ظهره وشيّبت لحيته، إلاّ أن عيونه الزرقاء كانت تتبع ملك الموت وتنادي عليه وسط ازدحام العاصمة دمشق.
في الغالب كان سبعينياً، أكياسه تحوي بقايا طعام متفرقة، وبعض فتات الخبز.
قام بتنسيق البقايا، تخلّص ممّا تلف منها، وأخرج كيساً أخيراً وضعه جانباً وانتشل من ركام كيسه الكبير ملعقة بلاستيكية، وشرع بفعل الأكل، نعم فعل الأكل، إذ كان محتوى الكيس لا يجذب النفس البشريّة للطعام إلّا نفساً يتعارك الوجود والفناء فيها، لتفضّ غريزة البقاء نزالهما وتُعطي لنفسها الحق في كلِّ شيءٍ.
أُقسم إن قلبي كاد يلفظ نفسه الأخير ممّا رأيت، لُقيمات عدّة أقمن صلبه، أغلق الكيس وأخرج حبتين من الثوم وتناولهما.
في تلك اللحظة التي كنت أنتظر فيها وصول دواء والدي من محافظةٍ أخرى، بعد أن فقدنا الأمل في الحصول عليه، كان ذلك السبعيني يستبدل كلَّ الطب بالثوم، تبعاً للسائد، ليُعالج به اختلال الضغط.
كنت واقفةً أُصفع بما يُدركه عقلي، أزداد جموداً حتى لم أنتبه لأشعة الشمس التي كانت تلسعني.
وبلمح البصر، مرّت سيدة بطريقة خاطفة وضعت في كف ذلك الرجل مبلغاً مالياً مكوّناً من عدة أوراق من فئة الـ 500 ليرة، زرقاء اللون.
وقبل أن تُبتر روحي، كان موقف السيدة هو المُنقذ، فبالرغم من كلِّ شيء مازال هناك بصيصٌ من خير يتقافز بين القلوب، حالها لم يكن بأفضل، كما تبيّن لي، لكنها آثرت العطاء.
التقيت بصديقي، تناولتُ منه علبة الدواء وعدتُ إلى منزلي.
كان عليّ أن أنام في تلك الليلة قريرة العين، فأنا قد أنجزت بتوفير دواء القلب الخاص بوالدي ما يكفل الأمن الدوائي لمدة 15 يوماً، بصرف النظر عن باقي الأصناف، ولكن هذا كان الأهم والأصعب في المنال.
كان عليّ أن أفكّر بفضل ذلك الصديق الوفي الذي تعب للحصول على علبة الدواء وأحضرها معه من محافظة الحسكة إلى دمشق.
لكن كلّ ما شغل تفكيري في تلك الليلة هو مجموعة الظروف التي تتطوّر في حياتنا اليومية، تخنقنا أكثر، وتزيد جرعة السمّ في أوردتنا.
تلك الظروف التي جعلتنا ننتقل من مرحلة (أزياء الفقير) وعملية إعادة التدوير للأغراض والملابس لأفراد العائلة الواحدة أو بين العوائل بما يضمن لنا (السترة) مُتناسين فكرة الموضة والرائج.
إلى مرحلة (إعادة تدوير الدواء).
نعم، تدوير الدواء، فحبة واحدة فائضة عن حاجة أحدهم قد تكفل لغيره الفرار من زنزانة الألم، وهذا ما شهدناه مؤخّراً على منصات التواصل الاجتماعي، حيث اشتعلت الصفحات بحملات تبرّع بالفائض، أو بما يُسمى بالعيّنات الدوائية المعروفة عند الصيادلة والأطباء.
خطوة جديدة، يمكن أن نُدرجها تحت بند (التكافل الاجتماعي) كما أدرجنا سابقاً فكرة التبرّع بالمال أو الغذاء، اليوم (نزيدكم من الشعر بيتاً) ونُضيف التبرّع بالدواء إلى اللائحة.
التكافل الاجتماعي!
هذا المصطلح كم نحن بحاجةٍ إليه وطبقات المجتمع عندنا تزداد الهوة بينها، فيبقى الجميع في الدرك الأسفل مُثقلين بجراحنا وبؤسنا، أمّا النُخب فتصعد لأبراجها بروحٍ خفيفة من سعادة ورُقيّ.
التكافل الاجتماعي الذي يعني (اجتماع أفراد المجتمع على المصالح المشتركة فيما بينهم، وأن يكونوا يداً واحدةً ضدّ المعوقات الفردية والجماعية التي تواجههم، ويتّحدوا على دفع الضرر والمفسدة عن جميع أفراده، والوقوف على كل ما يواجه أفراد المجتمع الواحد، من مساعدة للمحتاج وإغاثة للملهوف وحماية للضعيف، وتكريم من يستحق التقدير، والنظر إلى كل من لديه حاجة خاصة، والوقوف إلى جانب بعضهم في دفع المظالم وتسوية الخلافات وتقريب وجهات النظر بين أفراد المجتمع الواحد).
وما أحوجنا إلى كل حرفٍ ممّا سبق، حتى نُنتشل من هلاكنا.
كان النوم عصيّاً على جفني، كنتُ أشعر بما قاله أحد الصحفيين منذ أيام (نحن نعيش عقدة ذنب لفعلٍ لم نقترفه بأيدينا).
كيف ننام ببطون مليئة، وصوت الأجواف الخاوية ينهش أرواحنا؟!
كيف ننام بلا وجع ونزيف الآهات يُغرق الطرقات!؟