أسواق سوداء

ريم الحسين:

جولة سريعة في (سوق الصاغة) السوق العريق وسط مدينة دمشق كفيلة بإعطائك نظرة عامة عما يحدث من سياسات تسعير في داخل البلد.

إحدى الصديقات تريد شراء خاتم للزواج فقط، هذا الخاتم كرمز كما جرت العادة لأن السوريين المقبلين على الزواج، إن وجدوا، ليس بإمكانهم شراء أكثر من ذلك على الرغم من التقاليد والعادات الاجتماعية في هذا الخصوص إلا أن الوضع السيء وارتفاع تكاليف المعيشة جعل من الزواج كارثة وليس أسرة واستقراراً! وعندما يحل الفقر والفاقة تصبح التقاليد مجرد تحصيل حاصل غير مهم وخصوصاً فيما يتعلق بالأمور المادية.

بدأت الرحلة عند محلات شبه فارغة لا تعرض شيئاً على واجهاتها، وأخرى تعرض القليل من المصاغ الذهبي الذي يعود إلى القرن الحجري، أو مصاغاً من الألماس الغالي الثمن جداً بحيث لن يفكر المواطن العادي حتى بدخول المحل أو السؤال، ولا تسأل أي صائغ إلا ويجيبك ليس لدي ما أبيعه! وأغلبهم يجيب بطريقة طرد لبقة، فقامت تلك الصديقة وبدأت بأسلوب الترجي لأحد الصاغة والتوسل ليبيعها خاتم زفاف فقط ولو غراماً واحداً! فطلب منا أن نجلس ونستريح، وبدأ بالشرح تحت تأثير الدموع المتناثرة على وجنتيها بأننا لن نجد صائغاً واحداً سيبيع أي مصاغ ذهبي، لأن هناك خلافاً بين الصاغة وجمعيتهم على التسعيرة النظامية لغرام الذهب، فهو بعيد جداً عن السعر الحقيقي والعادل والذي يأخذ بالحسبان سعر أونصة الذهب عالمياً وسعر الصرف للدولار الأمريكي داخلياً وفي السوق السوداء، وليس تسعيرة التفضيل المركزية، ولن يتقبل الزبون فكرة دفع الفرق عل شكل قيمة صياغة للقطعة، فهي مرتفعة جداً، ولن يبيع الصائغ بخسارة، فيفضل عدم البيع وعدم الغوص في شرح السبب أيضاً لكل زبون، وخصوصاً بعد تردي قيمة الليرة السورية اتجه الغالبية لتحويل مدخراتهم إلى الذهب بصفته الملاذ الآمن أو العملات الأجنبية، لكن التعامل بالعملات له مخاطر والإنسان البسيط بغنى عنها وكثقافة شرقية يفضّل الناس الذهب عادةً، ذلك أن الطلب كبير وبالفعل كان السوق يضج بالناس الخاوية الوفاض دون شراء لكنه آثر تحت الضغط الأنثوي أن يشرح. وتابع كلامه بعد أن قطعت الحديث سيدة تسأل عن شراء ليرة ذهب، فأجابها لا يوجد ولن تجدي، إن الصائغ سيبيع في حالة واحدة إما دون فاتورة أو فاتورة تحتوي على سعر الجمعية فقط حتى لا يكون هناك شكوى من أي مواطن فيعاقب الصائغ. وهنا عادة المواطن سيحجم عن الشراء إلا المضطر أو الذي لا يجد ضيراً بما أنه سيبيعها لاحقاً بسعر أغلى أو عالأقل سيحفظ قيمة المال لأن الليرة لا قيمة لها وفي انخفاض مستمر، وخصوصاً بعد جائحة الخوف من قانون قيصر وتهاوي الاقتصاد، وهذا طبيعي في سلوك المستهلك وقت الأزمات، إضافة إلى أن المواطن لا يرى أي بادرة لتحسن الاقتصاد من كل النواحي، وكم عدد هؤلاء أصلاً الذين يملكون المال لشراء قطعة ذهبية في وقت أكثر من ثلاثة أرباع الشعب السوري لا يستطيع تأمين قوت يومه إلا بشق الأنفس؟ هؤلاء فئة قليلة من ميسورين الحال أو محدثي النعمة المستفيدين من الحرب أو البعض ممن لديه مدخرات قليلة تكفي لشراء عدد من الغرامات ولو كان العيار ١٢!

رضيت الصديقة وبامتنان عظيم لهذا الصائغ (المفعم بالإنسانية) وبعدد غرامات قليلة لخاتمها وسعر يفوق السعر النظامي بأكثر من النصف تحت ضغط الحاجة، وأخذت الفاتورة النظامية غير العادلة لها، وذهبت لتواجه ما تبقّى من أزمات وعقبات ومصاعب في وجه هذا الزواج المحكوم عليه سلفاً في هذا البلد بالجلِد والتعب.

وعلى هذا نقيس ما يحدث من تسعيرة وزارة التموين وتسعيرة وزارة الصحة وغيرها من الوزارات لجميع السلع، فجميعها أسعار نظامية على الورق فقط، بينما البيع أصبح وعلى الملأ على أسعار السوداء، فتسودّ الدنيا في وجه المواطن السوري بشكل أكبر، ويصبح الحصول على أدنى مقومات العيش يحتاج إلى تعب وإرهاق وقهر أو معجزة إلهية.

سوق الصاغة من الواجهات التاريخية والحضارية لمدينة دمشق، وأكبر احتياطي للذهب داخل البلد موجود فيه، يتحول إلى بازار واستنزاف، فما بالك بسوق الهال؟!

المجد للشهداء، حماة الديار عليكم سلام.

العدد 1102 - 03/4/2024