عمرٌ بدل ضائع
غزل حسين المصطفى:
(استغلال الأطفال في أيّ شكل من أشكال العمل بما يحرم الأطفال من طفولتهم، ويُعيق قدرتهم على الذهاب إلى المدرسة، ويؤثّر تأثيراً ضاراً عقلياً أو جسدياً أو اجتماعياً أو معنوياً).
في هذا التعريف لعمالة الأطفال وقفت طويلاً عند كلمة (استغلال).
كان السؤال يؤجّج اللهيب في عواطفي وإنسانيتي.
من قال لهم إن أطفال بلادي اليوم يُستَغلون في العمل فقط؟
من قال لهم إن كسب لقمة العيش باتت استغلالاً بالنسبة لهم؟
من سيحكي للتاريخ عن ياسمين هجر عرائشه، افترش الطريق وحمل الثقيل والهيّن لأجل قروشٍ عدّة في آخر الطريق تسند طفولته الباكية في زاوية من زوايا عمره المرير؟!
من سيقول لأطفال العالم إن أطفالنا ارتادوا أبواب الجامعات وأنفاقها، أمام كل كشك أو مكتبة، لم يراودهم الحلم إلاّ ببيع كل بضائعهم البسيطة، ولم تسقهم أحلامهم إلى المقاعد الدراسية؟
من سيُبرّر انحناء تلك القامات الصغيرة، من سيُبلسم الخدوش في باطن كفوفهم؟
من سيعوض هؤلاء الأطفال عن طفولتهم!؟ أهناك عمرٌ بدل ضائع؟!
وقُبيل كل شيء، كان الفقر مبررهم، فتصدح حناجر المسؤولين
بموضوع تنظيم الأسرة وتدبيرات الإنفاق … الخ، لكن اليوم الموضوع أكبر من فقر
لشريحة واحدة.
لقد أصبحنا كلنا فقراء، نجوب ليلاً
نهاراً خلف حلول أو حيل نُداري بها الحال.
اليوم الموضوع تفاقم وحمم بركانه طالت
الجميع، حرب طويلة، تقلبات اقتصادية بل انهيار اقتصادي، حجر، كورونا، عقوبات
اقتصادية…
كل هذه الأمور تخرق سفينتنا، فكيف لنا
أن نصل إلى برّ الأمان ونحن من بَتَرَتْ الحياة أجنحة أطفالنا وأذرع كبارنا؟!
فلا تسألوا عن عمالة طفل!
لا تخرجوا بخطاباتكم الساذجة تُلقون
الحكم والمواعظ، نحن نملك عيوناً وجوارح وإنسانيةً تنقل لنا الصورة بوضوح، لكن ما
باليد حيلة.
كيف أقول لكم ليس الأطفال وحدهم من
نزلوا إلى الشوارع والمهن، هناك في سوق الهال في دمشق، بدأت الحكاية ببعض الإناث
صغيرات السن بلثامهن تجرُّ
كل واحدة منهن (عرباية نقل خضار) بين السيارات والمحلات، أمّا اليوم فصارت الإناث
في ذلك الميدان كثيرات.
قالت إحدى الفتيات وهي في ربيعها
السادس عشر: (أصابعي هذه في كل ليلة تتبدل، أراها تتحوّل إلى أصابع رجلٍ سبعيني،
أرى أنوثتي تنضج ولكن باتجاه الرجولة، تأكلني آلام الظهر، يُضحكني ذلك البائع حين
يُغازل عيني في كل صباح ويلعن الظروف التي خبأت وجهي بلثام، لا أصدّق أن عيوني لافتة
إلى هذا الحدّ، إنها مدرارةً بالدمع، شهدت الموت بكل أشكاله، أقسم إني لا أضع
الكحل، ربما هو دخان القذائف أو دخان سيارات سوق الهال تُرسي رمادها بين أهدابي).
إلى كل القهر الذي يأكل تلك القلوب..
إلى كل مسؤول يتبجّح بتوصياته وآرائه…
إلى واقعنا..
إلى الوجه القبيح لهذا العالم…
كفى!
لا شيء ينفعنا، إلاّ معجزةً طبيعية أو
سماوية تقلب الموازين، تمحو الذاكرة.
وربما يكون الحل أن تُزلزل الأرض،
ويُعاد البناء من جديد، أن يبقى أولئك الأطفال ما دون سنّ الخامسة، يبدؤون بصفحة
بيضاء جديدة، لا تاريخ مضى، ولا انتصارات خُلّبية صنعها كُتّاب التاريخ، الانتصار
الوحيد سيكون من صنعهم.. من فطرتهم وإنسانيتهم.