هل فقدت الأحزاب مبررات وجودها؟ وما هي البدائل الجديدة؟

محمد علي شعبان:

لننطلق من مسلمة أساسية: إن ضرورة تشكيل حزب تعني، بالضبط، تطلّعاً ما لمجموعة من الأفراد أو كتلة اجتماعية، تهدف إلى الانتقال بالمجتمع من حالة بائسة ومتخلفة، يواجه الأفراد فيها العديد من الصعوبات الحياتية، ويطمحون لتغييرها إلى حالة أفضل، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. وهذا يقتضي جمع طاقات وجهود جميع المحتجين الذين يسعون إلى التغيير المنشود.

ونظراً لصعوبة العمل الفردي وعدم قدرته على تحقيق مهام تحتاج إلى جهد جماعي، وطاقات خلاقة ومتنوعة ليتمكنوا من تحقيق ما يصبون إليه. وبغضّ النظر عن تسمية أي حزب سياسي، تجاوز عمره العقد من الزمن، ولم يستطع تحقيق الحد الأدنى من برامجه، وتطلعات الكتلة الشعبية التي يعبر عن تطلعاتها، يجب عليه الجواب عن السؤال التالي، الذي يستدعي العديد من الاسئلة التي تحتاج إلى إجابات، بغية البحث بأسباب عدم نجاحه في تحقيق برامجه. والسؤال: هل يستمر أو ينحلّ؟ وما الجدوى من الاستمرار إذا كان يتراجع دوره وفعاليته على جميع الأصعدة؟ حتى الإنتاج الثقافي، الذي تموّتت فيه روحيته الثورية، وتحولت لثقافة التعايش مع حالة الإقصاء والتهميش.

وبما أن الأحزاب تشكلت بحاله تنافسية مع أحزاب أخرى، يجب أن يكون مفهوماً للجميع أن تلك الأحزاب القوية، والحاكمة لا تعطي أي أوراق قوة لأحزاب تنافسها، بل قد تلجأ لمحاصرتها ومحاولة تفشيلها.

والأمر الطبيعي هنا، أن يقوم كل حزب بإجراء تقييم ومراجعة نقدية يؤكد من خلالها الاستمرار أو التوقف عن النشاط.

إن أية مراجعة، وعلى أي صعيد كان، تستدعى الإقرار الصريح من قبل هيئات الحزب المعني، بالمستوى الجديد الذي وصل إليه الحزب، وهل يسير باتجاه المراوحة في المكان دون ربح أو خسارة للأعضاء؟ أو أنه في حالة تراجع دائم، أو هو في حالة تطور؟

إن حالة المراوحة والتراجع البطيء، تجعل الحزب أحوج ما يكون للمراجعة، والتغيير بالتكتيكات بغية الانتقال من حالة التموت البطيء، التي تعتبر أقسى وأخطر حالات الموت، لما تحمل من مآسي على جميع العاملين فيه.

إن حالة المراوحة هذه تشكل نواة فعلية للانقسام، الذي يستدعى التخلي عن المهام الأساسية للحزب، والانتقال إلى حالة صراع داخل التنظيم الواحد، فيتحول إلى خلافات بين كوادره، فمنهم من يأخذ موقع الدفاع ومنهم من يهاجم، فتصبح حالة التشظي هي سيدة الموقف، وتصبح المراجعة أمراً مستحيلاً، بعد وضوح حالات نفعية وانتهازية وحالات يائسة وينحصر الدفاع عن الماضي، ويصبح الحاضر هشّاً وضعيفاً، إذا لم يتعرض لمزيد من الهشاشة والاستثمار من قبل السلطات والأحزاب الأخرى.

 ويصبح النضال تهوراً والجدية تعصباً، والالتزام تطرفاً، والانتهازية مرونة. ويتحول الحزب من وسيلة نضالية لطبقة اجتماعية، إلى غاية لبعض الأفراد، تحقق بعض المكاسب الشخصية لبعض القيادات، مكتفين بذلك.

ويتحول الماضي إلى مقدسات يكتبه كل طرف من الأطراف كما يشاء، كما كتب رجال الدين نصوصهم المقدسة غير القابلة للحوار.

إن هذه الحالة تجعل الحزب أحد المعيقات وتقدم النموذج الحقيقي لحالته المعيقة، ومهما كانت الأفكار التي يتبناها صادقة ونبيلة، فإنها تموت ما لم يتوفر الحامل الاجتماعي الحقيقي لهذه الأفكار، ويعمل على تطويرها، عوضاً عن الوقوف عندها ومحاولة اعتبارها صالحة لكل زمان ومكان، رغم أن الأفكار تزداد غنىً كلما تحاورت وتجادلت فيما بينها، لتنتج أفكاراً جديدة تساهم إيجاباً في تصويب فكر الحزب وتطويره، والارتقاء بعمله.

لكن ما حصل منذ منتصف القرن الماضي في البلدان النامية أن الأحزاب أهملت مهمتها الأساسية التي تقتضي الحوار فيما بينها، من أجل تكريس ثوابت وطنية وشكل البوصلة النضالية وطبيعتها، وتمنع التدخل والنفوذ الخارجي في الشؤون الداخلية، الذي كان له دور سلبي في تمزيق الوحدة الوطنية لصالح تعددية سياسية، كان يمكن لها أن تشكل ائتلافاً حقيقياً، يجمع غالبية القوى اليسارية في إطار واحد، بغية تحقيق بعض المهام التي تساهم، وتهيّئ الأجواء لعمل سياسي حقيقي، وتخلق مناخات خاصة تعمل على جمع الجهود عوضاً عن تشتّتها وتشظّيها، في عدة مسمّيات بمضمون واحد، كما حصل في معظم البلدان العربية، حيث يوجد العديد من الأحزاب القومية ذات التوجه الاشتراكي، والعديد من الأحزاب الشيوعية ذات التوجه الاشتراكي أيضاً.

وأصبحت حالة التشظي والانقسام سيدة الموقف.

فهل من مبررات لاستمرار هذه الأحزاب بشكلها القديم وأدواتها المتخلفة، أو أن ضرورة المراجعة لنصف قرن من الزمن، هي من أهم الاولويات التي يجب العمل من أجلها، بغية تشكيل أحزاب وتيارات جديدة، على أنقاض الأحزاب التي شكلت إعاقات متعددة الوجوه، في جميع الجوانب الفكرية والاقتصادية والسياسية، والاجتماعية، والتي تتحمل مسؤولية الانزياحات الوطنية، والتطرف الديني الذي هيأ المناخ لاحتقانات مذهبية وطائفية، لم تكن موجودة في منتصف القرن الماضي؟

إن التحديات الجديدة لشعوب المنطقة العربية بعد الانقسامات العربية-العربية وتخلي قسم من الدول العربية عن القضية الفلسطينية، وضعت المنطقة العربية، بأحزابها وتياراتها، أمام مهام جديدة تحتاج إلى أدوات وتكتيكات جديدة، أساسها إعادة إنتاج يسار جديد يأخذ بعين الاعتبار جميع المتغيرات والوقائع التي استجدت خلال نصف قرن من الزمن. وإمكانية تحويل الترهل الحاصل في الأحزاب، إلى فرصة لتشكيلات جديدة، يمكنها مواجهة التحديات والتغلب عليها أو منعها من تحقيق أهدافها.

العدد 1104 - 24/4/2024