ثورة رقمية بلا رقم

د. أحمد ديركي:

يتجه العالم باتجاه (الرقم)! ومن خلال الأرقام الواقعية لا الوهمية بدأ العمل على تطوير كل ما هو قائم من نتاج الجنس البشري، وصولاً إلى الجنس البشري نفسه على اعتبار نتاجه غير مفصول عنه وإن بدا نتاجه وكأنه مفصول. يعود وهم الانفصال ما بين المنتِج والمنتَج إلى مفهوم (الاغتراب). وهم يُعمل على تكريسه بشتى الوسائل المتاحة في نمط الإنتاج الرأسمالي منذ النشوء وحتى تاريخه، وحالياً إن كان متطوراً أو مشوهاً، بصيغته الراهنة التي يطلق عليها (النيو-ليبرالية) والبعض يفضل استخدام التسمية المعممة وإن كانت غير صحيحة وهي (العولمة)، ولن نخوض هنا فيما إن كانت (العولمة) ظاهرة قديمة أم حديثة ما زال العمل على تكريس وتطوير وهم الانفصال قائماً. بمعنى آخر سواء كان الحديث عن وهم الانفصال في دول المركز أو في دول الأطراف.

من نتاج تطور النيو-ليبرالية تطور العمل بالأرقام، إلى حد أصبح فيه هناك ما يُعرف بـ(الثورة الرقمية) (digital revolution). (ثورة) ناجمة عن تطور في شتى مجالات العلوم الطبيعية (فيزياء، كيمياء، علم أحياء، رياضيات…) والإنسانية (فلسفة، علم نفس، علم اجتماع…) وكم الاستثمارات الرأسمالية الهائلة في هذا المجال من أجل (تطوير) نمط الإنتاج الرأسمالي. وبدأنا نشهد إنجازات هذه (الثورة) في كل أنماط حياتنا اليومية وعلى كل الأصعدة، من المجالات الطبية إلى التعامل مع النفايات، ودخلت في كل البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.  

(ثورة) تداخلت فيها كل العلوم، الطبيعية والإنسانية، لـ(تطوير) نمط الإنتاج الرأسمالي ونجحت في هذا، حتى الآن! لكن ما هو غائب، أو بالأصح مُغيّب، في هذه (الثورة)، هو علاقة الرقم بالواقع! وهنا يظهر الفارق الجلي من دون أي لبس ما بين دول المركز ودول الأطراف، ومدى تبعية دول الأطراف الاقتصادية والسياسية وجزء من الاجتماعية بدول المركز!

لقد فصلت دول الأطراف، لأسباب متعددة لن نغوص فيها الآن، (الثورة الرقمية) عن واقع تطورها وظروفه وشروطه و(استوردتها) كي تطبقها بالمفهوم الاستهلاكي فقط لا غير، وإن ادعت بعض دول الأطراف غير هذا، وما هذا الادعاء سوى تكريس وهم الانفصال ما بين المنتِج والمنتَج!

وأكثر ما تتمظهر فيه (الثورة الرقمية) هو التقارير والدراسات التي تصدر في دول المركز، بغض النظر عن موضوع الدراسة أو التقرير. فكل من يجيد القراءة ويقرأ هذه التقارير، يلحظ مدى تداخل كل العلوم، الطبيعية والإنسانية، في التقرير أو الدراسة. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، عند قراءة تقرير حول الفقر نجده مفعماً بالأرقام والرسوم البيانية وتعريف المفاهيم والمصطلحات المستخدمة فيه ومدى التفصيلات الواردة، وكل هذه الأمور تعتمد بشكل رئيسي على العلوم الطبيعية. ومن جهة أخرى نلحظ وجود الخطط المنهجية، المعتمدة على العلوم الإنسانية، لحل جزء من الظواهر المجتمعية المدروسة، وإن كانت هذه الحلول تتوافق مع نمط الإنتاج الرأسمالي. ولكن يمكن اعتبارها حلولاً (منهجية) علمية ذات هدف محدد في الجوهر، مفاده خدمة تطوير نمط الإنتاج الرأسمالي.

أما إذا نظرنا إلى التقارير والدراسات في دول الأطراف فنجد الثغرات والهوات والهفوات والأخطاء و(النسخ واللصق) من دون أي أساس لا للعلوم الطبيعية ولا للعلوم الإنسانية! وكيف لها أن تكون بعلاقة مع هذه العلوم وهي لا تنتج أياً منهما! رغم حشوها بالأرقام، الوهمية أو الفعلية (المنسوخة والملصوقة) في التقارير والدراسات.

أضف إلى هذا أننا نجد أن نسبة عدد مراكز الأبحاث التابعة للسلطة السياسية، والمستقلة عنها، في دول المركز مقارنة بدول الأطراف، تمثل نسبة ضئيلة جداً إلى حد يمكن عدم احتسابها! يمكن لمن يشاء في عالم (الثورة الرقمية) أن يقوم بالدخول إلى الإنترنت لمعرفة عدد، ما دمنا نتحدث عن الأرقام فقط لا المضمون، مراكز الأبحاث في اليونان، مثلاً، ويقارن عددها في أي بلد طرفي يشاء!

فكيف لهذه الدول الطرفية أن تتحدث عن سياسات لمحاربة الفقر، أو البطالة، أو الجريمة، أو بناء وطن ومواطن و… أو أي ظاهرة اجتماعية مَرضية، أو لا مَرضية، لتمكين مفهوم الانتماء والتضامن الاجتماعي و… إن كان كل ما تقوم به هو (نسخ ولصق) (ثورة رقمية) بلا رقم وبلا قراءة للرقم، أي بلا مضمون!؟

ومن هذا الأساس يمكن توجيه السؤال التالي، اعتماداً على قراءة الرقم: ماذا يعني، في بلد ما، أن نسبة من يعيشون دون خط الفقر 83%؟ هل ناموا أغنياء واستيقظوا فقراء؟ ماذا يعني أن أربعة من كل خمسة أشخاص يعيشون دون خط الفقر؟ من هو هذا الخامس الذي يعيش فوق خط الفقر؟ ما الأسباب التراكمية، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، التي أدت إلى وصول نسبة الفقر إلى هذا المستوى؟ ما العلاقة ما بين مستويات الدخل والفقر؟ ما هي طبيعة سوق العمل ومستويات البطالة والتشغيل فيه؟ ما هي السياسة العلمية للحلول المقترحة لخفض هذه المستويات؟ هل هذه النسبة ظاهرة طبيعية في البلد أم لا؟ إن كانت الاجابة بنعم أو لا، لماذا نعم؟ ولماذا لا؟ هل أتت النسبة من جهة واحدة (مسؤولة) أم من أكثر من مركز دراسات محلية وعالمية؟ كم يبلغ تعداد مراكز الدراسات في هذا البلد، سواء كانت مراكز تابعة للسلطة السياسية أم مستقلة عنها، وما مدى استقلالها عنها؟ ما مستويات استقلالية الجهاز القضائي ليحاسب المسؤول، أو المسؤولين، أو (الأجهزة) أو المؤسسات او الوزارات او الحكومات أو… عن هذه النسبة؟ وألف سؤال وسؤال يمكن طرحه، وكلها أسئلة تتعلق باستخدام (الثورة الرقمية) في دول الأطراف!

يبدو أن (الوهم) والعيش بـ(التوهم) ما زال سيد الموقف في الدول الأطراف، وإن وصلت نسبه الفقر في بعض منها إلى 83%!

العدد 1102 - 03/4/2024