الدواء وتصنيفه في الأولويات الحكوميّة

يارا بالي:

صدماتٌ بالجملة يتلقاها اليوم المواطن السوري، بعد سلسلةٍ ضخمة من الضغوط الاقتصادية، والتخبطات الداخلية، والقرارات السياسية الدولية، التي كان أبرزها وأعظمها أثراً، ما طرحته الهمجية الأمريكية بالتعاون مع حليفاتها من دول الاتحاد الأوربي، من عقوبات جاءت تحت مسمّى (قانون قيصر) أو(سيزر) كما أطلق عليه بعض المحللين. فهل من مخلصٍ يعلن نهايةً آمنة للمأساة، ولاسيما بعد أن تطاولت لتصل إلى كل النواحي المعيشية، وتُهدّد أمن المواطن في أكثر الملفات خطورة وإلحاحاً ألا وهو العوز الدوائي؟؟ أم أن الدواء اليوم غدا على الهامش الحكومي، وأن الأمور خرجت حقيقةً عن السيطرة، لتعلن فصلاً جديداً من فصول العذاب!؟

اليوم تجاوزت الأزمة الحدود المنطقيّة، وغدا المواطن السوري أمام نوعٍ جديد من التحديات، فقد فقدت الأسواق السورية أهم موادها ألا وهو الدواء، وخاصة أن الأدوية التي فُقِدَتْ لا يمكن الاستغناء عنها، فهي بأغلبها أدوية متعلّقة بالأمراض المزمنة، التي قد يؤدي فقدانها، ولو لأيام معدودة، إلى فقد حياة المريض، أو تعرّضه لمضاعفاتٍ صحية يصعب تحمّلها على من هزل جسمه من كبار السن أو العجزة، فهي أدوية نوعية متعلّقة بشكل مباشر باستمرار حياة المرضى، فقد مضى على الأزمة الدوائية ما يقارب شهراً ونصف شهر، وإلى اليوم لا حلول حكومية توقف الكارثة، ولا حتى تصريحات تُبرّد نار من اكتوى منها، على العكس فقد تفاقم الوضع سوءاً، والمخزون الذي كانت تحتويه الصيدليات، ومخازن الأدوية وحتى المستشفيات بدأ بالنفاد، وغدا الحصول على بعض العلاجات كأدوية السكر، والقلب، والضغط، والغدّة، وما شابه من الأمراض المزمنة الخطرة، أمراً بغاية الصعوبة، فضلاً عن الغلاء الفاحش الذي تَبِع هذه الندرة في الحصول عليها. لكن الأزمة وعلى الرغم من الزوايا المأساوية القاسية التي حملتها على المرضى وأسرهم، وعلى الكوادر الطبية كاملة، فقد حملت معها زوايا من خير، أظهرتها أطياف المجتمع السوري، بأروع صور التكاتف الاجتماعي كحلول مؤقتة لتجاوز الأزمة بسلام، فقد بدأت حملات التبرع بالأدوية عن طريق الشبكة العنكبوتية، هذه الأدوية الموجودة في كل صيدلية منزلية، كما شكّل مجموعة من الأطباء والصيادلة وحتى المتطوعون من المجتمع المدني حملة منظمة، ومدروسة، تهدف إلى إيصال أي كمية من الأدوية الأساسية المفقودة أينما وجدت، إلى من هم بحاجة ماسّة إليها، وفق أولويات طرحتها كوادرهم المنتشرة في أنحاء البلاد. فقد تضافرت الجهود وتوحدت الهمم وأصبح كل فرد في هذا المجتمع صاحب مسؤولية، لتفادي مخاطر المرحلة، بعيدين كل البعد عن الذمّ غير المجدي والتجريح بأي مسبب للكارثة، بل على النقيض تعاطفت الفئات المجتمعية فيما بينها، وقدّم الأطباء العينات المجانية لأي دواء احتوته صيدليتهم، ولكن يبقى السؤال الأبرز والأكثر جدية في خطورة هذه المحطة: إلى أي مدى قد تجدي هذه الحلول المبدئية فائدة، وما الأسباب التي أوصلت الواقع الدوائي إلى هذا المدى من الاستفحال؟!

ممّا لا شك فيه أن الحل الإسعافي الوحيد، هو التدخل الحكومي السريع، بضخ الكميات المطلوبة من الأدوية على أمل عودة الأمور الطبية إلى نصابها السليم، بعدما استنفدت الأزمات آخر ما لدى المواطن من صبر وقوة. وبالنظر إلى الأسباب التي أوصلت الأزمة إلى هذا الحدّ، فقد طرح عضو مجلس الشعب السوري (وضاح مراد) رأيه تحت قبة البرلمان فقال: (إن الدواء والغذاء خط أحمر، وخطير على الشعب، وأنتم فشلتم حتى الآن في الغذاء، وماضون بطريقكم لغلق مصانع الأدوية السورية، التي كانت تغطي احتياجات السوق المحلية، وبأرخص الأسعار، كما تُصدّر إنتاجها لأكثر من ثمانٍ وخمسين دولة.. أسبوع وستُغلق جميع معامل الأدوية، بعد أن تنتهي المواد الأولية الباقية فيها، فكيف تطلب الحكومة من مصانع الأدوية تسعير الأدوية، على سعر صرف الدولار بأربعمئة ليرة وتقول لهم أن يتدبروا أمورهم بشراء الدولار من السوق وسعره فوق الألف وسبعمئة؟؟ وكأنك تقول لهم أغلقوا مصانعكم، أعطهم الدولار بثلاثمئة وطالبهم بتخفيض سعر الدولار للسوق المحلية)!

وممّا لا شكّ فيه أن أحد أهم الأسباب التي لعبت دوراً في الضغوط الأخيرة، التي كان أعظمها أزمة الدواء، هي العقوبات الأمريكية المتمثلة بقانون قيصر، الذي تكمن خطورته في (أنه يركّز على قطاع الطاقة من نفط خام ومشتقاته وغاز طبيعي ومُسال. وإذا أخذنا الأرقام الرسمية، فإن سورية الآن يصلها ما يقارب 60% فقط من حاجاتها النفطية وتكلفة هذه النسبة 200 مليون دولار شهرياً. هذا القانون سوف يسمح لسورية بما قيمته 2 مليون دولار سنوياً فقط… سنوياً وليس شهرياً، أي أن جميع أنواع الإنتاج سوف تتوقف تماماً فيما لو تشدّدت الولايات المتحدة في التطبيق. اليوم وفي ظلّ الضغط الحاصل يبقى الانتظار المترقب سيّد الموقف على أمل فرجٍ قريب تحمله الأيام القادمة، فالدواء منذ الأزل حاجة إنسانية مُلحّة، لا تحتمل الخيارات.

العدد 1104 - 24/4/2024