ما بين الدستور والواقع وادٍ سحيق من الألم والقهر.. الصحة العامة أنموذجاً

إيمان أحمد ونوس:

تُعتبر الصحة العامة أحد أهم مؤشّرات الرقيّ والتطور للدولة والمجتمع على حدٍّ سواء، فحين يتمتّع المواطنون بحالة صحية جيدة، يزدهر المجتمع بعطائهم المهني والفكري والثقافي والاجتماعي و… الخ، وكلما ارتقت الاكتشافات والأبحاث العلمية والطبية، تطوّر الطب والصناعات الدوائية، وبالتالي تطوّرت الدولة وتعافى المواطنون من العديد من الأمراض التي تُعرقل تطوّر مسيرة حياة الفرد والمجتمع والدولة معاً، وذلك من خلال تخفيف تكاليف العلاج التي تكون في بعض الأمراض باهظة ومُرهقة للأسرة والدولة، فتُشكّل عبئاً اقتصادياً كان يمكن توجيهه لأمور أخرى تصبُّ في مصلحة الجميع. ولقد تضمّن الدستور السوري بعض المواد المتعلقة بالصحة العامة، فقد نصّت المادة 25 على أن التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية أركان أساسية لبناء المجتمع، وتعمل الدولة على تحقيق التنمية المتوازنة بين جميع مناطق الجمهورية العربية السورية.

وقبلها تمّ التأكيد على مهام الدولة وواجباتها تجاه مواطنيها في المادة 22 التي نصّت على:

1- تكفل الدولة كل مواطن وأسرته في حالات الطوارئ والمرض والعجز واليُتم والشيخوخة.

2- تحمي الدولة صحة المواطنين وتوفر لهم وسائل الوقاية والمعالجة والتداوي.

نعم، لقد شهدت سورية في عقود ما قبل حرب السنوات العجاف العشر تطوراً حقيقياً في مجال الصناعات الدوائية التي كانت أحد أهم الصادرات الخارجية، كذلك شهدت الصحة العامة تطوراً ملحوظاً على مستوى الأفراد، إذ اختفت العديد من الأمراض السارية كشلل الأطفال واللاشمانيا (حبة حلب)، وهذا دليل على اهتمام الفرد والدولة بالصحة العامة وضرورة مراعاتها في كل الأحوال كي لا تكون عائقاً في وجه النمو الاقتصادي وتطوره على المستوى الشخصي والعام، رغم العديد من المشكلات التي اعترضت المواطن في المشافي العامة حين تمَّ اعتماد نهج اقتصاد السوق الاجتماعي الذي كان له الأثر السلبي على تقديم الخدمات المجانية والدوائية في تلك المشافي مقابل ارتفاع أسعارها ( وتدني جودتها) في المشافي والعيادات الخاصّة، ما أفسح المجال واسعاً أمام المحسوبيات والواسطات في المشافي العامة عبر فساد استشرى حتى في أكثر المجالات خطورة على حياة المواطن ألا وهي الصحة واحتياجاتها كافّة، لتأتي بعدها الأزمة السياسية وما تبعها من حرب التهمت نيرانها غالبية المرافق الصحية وشركات الأدوية التي هجر أصحابها ما تبقى منها بسبب انعدام متطلبات البنية التحتية من جهة، وصعوبة تأمين المستلزمات الأولية لتلك الصناعات من جهة أخرى إمّا جرّاء العقوبات التي فُرِضَت على سوريا خلال الحرب، أو بسبب آلية التعامل الحكومية التي اتصفت بالإهمال، وكذلك النهب العشوائي مُتعدّد الأشكال سواء للشحن أو للعمل في بعض الشركات من قبل من نصّبوا أنفسهم وكلاء وحماة لهذه المرافق، ما ساهم حقيقة في تدني نوعية الأدوية المُصنّعة محلياً وكذلك ندرتها في الأسواق، ولا ننسى في هذا المضمار ارتفاع أجور الكشف والعلاج في المشافي والعيادات الخاصة ما دفع بغالبية الناس للجوء إلى الصيدليات التي أصبحت عيادات تُشخّص المرض وتصف الدواء وتُعطيه للمريض بوقت واحد، ممّا ساهم في ارتفاع أسعاره دون رقابة حيناً، وحيناً آخر بسبب محاباة الحكومة لأصحاب هذه الشركات والدليل نشرة التسعير الأخيرة لوزارة الصحة التي وصلت الزيادة فيها إلى (500%) لبعض الأدوية تحت ذرائع وحجج واهية وغير مقبولة من حكومة يُفترض بها مراعاة الظروف الراهنة والبائسة التي يعيشها ويُعاني منها المواطن استناداً للدستور ومواده المذكورة أعلاه.

صحيح أنه لا يُمكننا إغفال دور العقوبات والحصار الاقتصادي الواقع على سورية في تعميق العديد من الأزمات المعيشية للمواطنين ومنها أزمة الدواء اليوم، لكن بالمقابل لا يُمكننا إغفال الفساد المُستشري والمُتغلغل في غالبية مفاصل الدولة والحكومة، والذي أدّى بشكل طبيعي إلى تراخي الحكومات وتراجعها عن العديد من مهامها ومسؤولياتها المنوطة بها في الدستور، فقد كان من المفترض بالحكومات المُتعاقبة حتى اللحظة أن تضع الوضع الصحي للناس في أولويات أجنداتها قبل أن تُدرج عليها المشاريع الاستثمارية/ العقارية والسياحية، فما بالنا ونحن مقبلون على عقوبات أشدّ وأخطر حين تطبيق قانون قيصر باعتباره سيطول معيشة الناس وحياتهم مباشرة، رغم التصريح الذي أدلى به أحد مسؤولي البيت الأبيض بأن القانون المذكور غير موجّه للشعب السوري بل لحكومته فقط، في الوقت الذي تتهم حكوماتنا البيت الأبيض وتلك العقوبات بأنهم السبب الأساسي في تدني مستوى معيشة الناس وارتفاع مستوى خط الفقر الذي تجاوز المعدلات العالمية بدرجات ودرجات. نعم، كان على الحكومة أن تتهيأ لهذا الواقع بتأمين المستلزمات الأساسية للصحة العامة والصناعات الدوائية وبإشرافها مباشرة عبر المؤسسة العامة للتجارة الخارجية، لا أن تترك القرار لأصحاب الشركات الذين لا همّ لهم سوى تكديس الأموال والأرباح ولو على حساب وجع وألم الناس وحياتهم المُهدّدة في كل لحظة بسبب انعدام أو شحّ الدواء وغلاء أسعاره في الأسواق، ما جعل الجميع بذلك أفظع وأخطر من قيصر الذي سبقوه بما هو حاصل اليوم على صعيد ليس الدواء وحسب بل على صعيد كل المستلزمات الأساسية لحياة الناس البسطاء والمعدمين والمهمّشين الذين وحدهم من يدفع فاتورة تلك العقوبات منذ أمد بعيد رغم أن المادة 19 من الدستور تنص على:

(يقوم المجتمع في الجمهورية العربية السورية على أساس التضامن والتكافل واحترام مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة وصيانة الكرامة الإنسانية لكل فرد).

فهل هناك أيُّ مؤشّرٍ على أن كرامتنا الإنسانية مصونة حقاً في دستور يتمُّ اغتياله في كل لحظة حتى أصبح بينه وبين المواطن وادٍ سحيق من الألم والقهر وانعدام الإنسانية برمتها وليس فقط الكرامة!؟

العدد 1102 - 03/4/2024