مؤشرات في انحسار دور مسار أستانا

صفوان داؤد:

في أيار 2015 أعلن وزير خارجية جمهورية كازاخستان، إيرلان إدريسوف، عن انطلاق المفاوضات بين أطياف المعارضة السورية في العاصمة الكازاخستانية أستانا، على هامش منتدى اقتصادي كانت تستضيفه، في مسعى لوضع مسار سياسي فاعل لحل الأزمة السورية، وبإشراف فاعل من روسيا. لكن بعيداً عن الإطار العام لهذا المسار، كان الهدف الرئيسي لموسكو التعامل مع نقاط القتال بين أطراف الصراع التي قُدّرت وقتذاك بالمئات، بغطاء سياسي يحمي مصالح حلفاءها والاحتفاظ بشرعية الحكومة السورية. لاحقاً، بعد التدخل الروسي ومع زيادة تأثير طهران وأنقرة في الملف السوري، تم إطلاق (صيغة أستانا) رسميّاً في كانون الثاني 2017 بصيغة الثلاثي الضامن: روسيا مع تركيا وإيران. وشكّلَ هذا التاريخ علامة فارقة، إذ استطاعت موسكو تحييد واشنطن عن حليفها التركي، والاستعاضة بسياسة الأمر الواقع التي تفرضها التطورات الميدانية السورية كأساس لضبط الجبهات الدبلوماسية والعسكرية والأمنية في آن معاً، بالتشارك مع أنقرة التي تعاظم دورها على المجموعات المعارضة المسلحة داخل سورية.

تم التشبيك وفق منطق المناقشات الثنائية بين روسيا من جهة وتركيا من جهة أخرى مع القوى العسكرية الفاعلة في الميدان، وأعقبتها عادة مناقشات مشتركة سياسية وأمنية رفيعة المستوى. ولعب مسار أستانا دوراً موازياً لمسار جنيف كمسار أكثر ملاءمة للكرملين وأكثر فاعلية نتيجة ارتباطه المباشر مع المتغيرات الميدانية. هكذا عبر أستانا استطاعت موسكو بناء شبكة من المفاهيم والاتفاقات والصياغات البراغماتية تناسب ومصالحها، وتحولُ دون تجاوز خطوط المواجهة المباشرة بين القوى الرئيسة الفاعلة، سواء كان الأمر يتعلق بقوى دولية مثل الولايات المتحدة، أو قوى محلية مثل (قوات سورية الديمقراطية) أو (حزب الله). كما كسبت موسكو بُعداً دولياً من هذا المسار عندما أعطت فضاءً مريحاً لأنقرة للمناورة بعيداً عن حلفائها الغربيين، ولو أن هذا الأمر قد قيّد جزئياً المصالح الروسية في سورية وأعطى نفوذاً نسبياً لأنقرة على موسكو خاصة في الشمال السوري.

وبسبب جائحة كورونا وتطبيق إجراءات العزل المرافقة معها، عقد الثلاثي الضامن لأستانا وبشكل استثنائي، اجتماعاً افتراضيّاً في 22 نيسان الماضي. وهو أول اجتماع بعد تطبيق وقف إطلاق النار في محافظة إدلب، الذي يبدو أنه صمد بشكل غير مألوف حتى الآن. لكن لم يسفر الاجتماع عن نتائج (جيدة) وانتهى دون الاتفاق على بيان مشترك، واستعيض عنه ببيانين صحفيين منفصلين من كل من وزارتي الخارجية الروسية والتركية. وعكس البيانان الخلاف الأساسي العميق بين العاصمتين المؤثرتين في الملف السوري، وهو تفسير مضمون قرار مجلس الأمن 2254، فقد أشار البيان الروسي إلى وحدة الأراضي السورية وسيادتها بقيادة الحكومة السورية المعترف بها أممياً، وحضّت أنقرة على بذل المزيد من الجهد لفصل جماعات المعارضة المعتدلة عن تلك المصنّفة (إرهابية). في حين عكس البيان التركي الدعوة إلى عملية سياسية متكاملة يكون القرار 2254 هو الإطار المرجعي فيها، وألا يُكتفى بالقضية الدستورية فقط، كما ترغب موسكو.

غير أن مسار أستانا وفق ما يخطط له الثلاثي الضامن سيتعرض لضغوط كبيرة قد تصل إلى تحييده، مع تنفيذ قانون قيصر في هذا الشهر، إذ إن عملية إعادة الاعمار في سورية تتطلب استثماراً ضخماً كدفعة أولى لا تستطيع أن تتحمله أيّ من الدول الضامنة، ولا بد من العودة إلى المساعدات الغربية والخليجية. كما ترك تشريع قانون قيصر في بند من بنوده إمكانية للرئيس الأمريكي تجميده أو وقفه، هذا يعني إمكانية واشنطن ربط تفعيل العقوبات أو تثبيطها بتنفيذ القرار 2254 الذي صاغته أساساً الدبلوماسية الروسية والأمريكية معاً. ومع الاحتمال الكبير لازدياد الضغوط الاقتصادية على الاقتصاد السوري وعجز موسكو عن إنقاذ هذا القطاع فإن هذه الأخيرة ستجد العودة إلى القرار الأممي والاتفاق مع واشنطن على حساب التخلي عن نتائج مسار أستانا حلاً مقبولاً. كما أن مسار أستانا يعاني ضعفاً بنيوياً متمثلاً، ومهما كان النفوذ الروسي كبيراً، بارتهانه للإرادة التركية والمصلحة الاستراتيجية لها من بقاء هذا المسار من عدمه.

إن فشل أستانا مثلاً في حل أزمة تدفق اللاجئين أو حصول تطور دراماتيكي في قضية الكرد السوريين سيدفع بتركيا التخلي عنه.

مع ذلك سيبقى مسار أستانا على المدى القريب ضابطاً للعمليات الأمنية والعسكرية، لكنه لن يكون أبداً الإطار الذي ينبثق عنه الحل السياسي للأزمة السورية. وسيفرض قانون قيصر تكثيف الكرملين جهودها لحثّ كلٍّ من الحكومة والمعارضة السورية على الانخراط معاً بشكل أكثر جدية في تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، وهذا يحتاج إلى منظور إيجابي من دمشق المُتهمة دولياً بعرقلة المفاوضات. من هنا يمكن تفسير توحيد مراكز القوى الأمنية، العسكرية والاقتصادية ووزارة الخارجية الروسية، ضمن قناة مرجعية واحدة هي الممثل الروسي الجديد في دمشق السيد ألكسندر يفيموف سفيراً فوق العادة، وذلك تحسباً لأي تعارض أو تباين فيما بينها. بالنتيجة لا يمكن التقليل من أن هذا التعيين يشير إلى مرحلة جديدة في العلاقات بين الكرملين والحكومة السورية، والذي سوف يفرض، من البروتوكولات المرافقة له، العودة وقبول التزامات سياسية من القرار 2254، وتجاهل أو تأجيل أخرى مرتبطة بنتائج مسار أستانا.

العدد 1102 - 03/4/2024