المثقفون السوريون بين التحسر والأمل

يونس صالح:

ليس النقاش حول دور المثقف ظاهرة خاصة بنا نحن السوريين، فقد سبقتنا أمم أخرى طرحت وسوف تطرح الإشكالية نفسها في ظروف تطورها للبحث عن دور لأبنائها الواعين، ولعله جرى تحميل (المثقف) عندنا أكثر مما يحتمل بحلل المشكلات الوطنية والاجتماعية، ولقد عُقدت الندوات تلو الندوات لفهم دوره وتطلعاته، ورفض البعض الاعتراف بأن المثقف هو نتاج لمجتمعه وظروف تطوره أكثر منه قائداً فكرياً يشير بالحلول في المشاكل المعلقة فتحل عقدتها.

ولعل التشتت العربي البادي للعيان والحرائق الملتهبة على شكل حروب، على امتداد الواقع العربي، سواء كانت نار تلك الحرائق بارزة وملتهبة أو مختفية تحت الرماد، لعل ذلك التشتت وتلك الحرائق تجعل من إمكانية العودة إلى التساؤل حول دور المثقف أمراً ممكناً.

فما هو دور المثقفين لتبصير الشعب بالمخاطر التي تهدده لا الآن فقط، وإنما تهدد أيضاً أجياله القادمة؟ وما هي المخارج المعقولة لهذا الضياع الكبير؟

رغم التباين الشديد في التيارات الفكرية والثقافية عندنا اليوم، بين سلفية ومعاصرة وتراثية وحديثة، وقومية وقطرية، ورغم التشتت في بنائنا الفكري العام الذي نلمسه بوضوح، إلا أن الجميع تقريباً مهما تعددت الاجتهادات ندرك أن هناك (محنة) مظاهرها واضحة وجلية، أما كيفية تجاوز هذه المحنة فهنا تبدو الاجتهادات واسعة، بل ومتباينة، بعضها تغلب عليه الحسرة وأخرى مفعمة بالأمل، وقد طفق المجتهدون والمثقفون في السنوات الأخيرة، وبعد سقوط مسلمات ظلت ثابتة نسبياً إلى فترة غير بعيدة، طفق المثقفون في مجابهة قاسية مع الذات تذكرنا بالنقد الذاتي القاسي الذي يحدث بعد أن يفشل شعب في تحقيق ذاته كما حدث مراراً في التاريخ الحديث يبحثون عن أسباب لهذا الواقع المؤلم.

وهنا اتجهت مجموعة من المثقفين لنقد المجتمع السوري، إنها مجموعة تغمرها الحسرة، شككت في كل ما يمكن أن ينسب إلى الشعب من قدرة، بل إن بعضهم ذهب إلى اتهام الشخصية السورية بأنها شخصية (ثنائية) تحمل الشيء ونقيضه في الوقت نفسه، وكأنها خارج السياق الإنساني، كما أن البعض استعار تشبيهات استشراقية فيها اتهام مباشر للعقل السوري بأنه (جامد وساكن) وظهرت كتابات تقارن بين شخصيتنا والشخصية الصهيونية، ولقد روّج لها الإعلام الصهيوني العالمي.

ولقد شهدت الآونة الأخيرة تفشي النقد الذاتي القاسي لدى طائفة من المثقفين عندنا، مما شكل بحد ذاته ظاهرة ثقافية مازالت منتشرة. وفي المقابل، فقد بحث آخرون في الواقع المعيش من منطلق الأمل، وظهرت تيارات فكرية آخذة في التبلور لتمثل حالة معاكسة للنقد القاسي بالنقد العلمي المستنير الذي ينسب عجز فاعلية المثقف في المجتمع عندنا إلى أسباب موضوعية نابعة من المجتمع نفسه، وأن أغلبية أهل المعرفة مرتبطون نشوءاً ومصيراً بمراحل تطور مجتمعاتهم التي توظفهم في تلبية حاجاتها، وأن ضعف المجتمع من حيث تركيبه غير المتطور تماماً، يحول دون بروز تيارات فكرية قوية وشبه سائدة حتى بصرف النظر عن محتوى هذه التيارات، وبالتالي فإن تخلف دور المثقف في مجتمعنا مرتبط بتخلفه الاقتصادي والاجتماعي، ولا يجب توقع دور للمثقف خارج المجتمع الذي ينتمي إليه.

إلا أن بعض المثقفين حاولوا فهم إشكالية تشتت المجتمع من منظور فهم المجتمع، من خلال نماذج معرفية ثلاثة:

النموذج التقليدي (البطركي) وهو مفهوم بحد ذاته معقد بعض الشيء، ويعني بشكل عام (النظرة الأبوية التسلطية المطلقة في النظر إلى الأمور وإدارتها). والنموذج الثاني هو (البطركي الحديث)، أما الثالث فهو (النموذج النقدي).

يتميز الوعي في النموذج الأول بمفاهيم الوصفية والسردية وتأكيد القيم، وهي لا تعرف الذات نفسها إلا من خلال اختلافها مع الآخرين، فالآخرون نفيٌ لها وتهديد. هذا الوعي بتميز بالرفض المطلق للاختلاف، ويرى في أية اختلافات تناقضاً كلياً معه.

أما الوعي (البطركي الحديث) فهو وعي للتوفيق بين التراث والحداثة، بين الماضي والحاضر، لكن منهجيته لا تختلف عن منهجية الأول في الوصفية والسرد وتأكيد الماضي، إنه هروب من الواقع، وتراجع نحو طفولة مستحيلة، إن هذا الوعي يخترع الحقائق ويبني النماذج كما يريد، تارة يستمدها من منظور تراثي يفسره على هواه، وأخرى يصنعها من نسيج ينتقيه كما يحلو له.

وأخيراً هناك وعي ثالث هو الوعي النقدي، وقد برز في أواخر القرن الماضي، ومازال ها الوعي ذو النزعة الاستقلالية والثورة على التبعية الثقافية في مرحلة التطور والنضوج.

إن النظرية النقدية تعتبر تعويق عمل المثقف عندنا ناتج إذاً من أسباب موضوعية موجودة في مجتمعه، وتعطل جانباً كبيراً من وعيه لذاته وللآخرين، ولكنها أيضاً نظرة أمل للمستقبل، لأن الوعي الصحيح، ولو كان وعي القلة يتشكل باطراد.

في الختام، يمكن القول إننا في طور الانتقال من (ثقافة الذاكرة) إن صح التعبير، إلى (ثقافة الإبداع) صحيح أن الأغلبية مازالت تحن لثقافة الذاكرة، ولكنه صحيح أيضاً أن ثقافة الإبداع بدأت تظهر وتأخذ لها مكاناً معقولاً في الكتابات الحديثة، ولم تعد مفاهيم تبدو خارجة من الزمان والمكان.

إن معرفتنا لمصالحنا المشتركة وأهدافنا القريبة والبعيدة، بل فهمنا لمقاصد أعدائنا فينا كلها قضايا لها أهميتها وإن مناقشتها وتوضيحها وجدولة أولياتها وتحديد مسارات الاستقلال الاقتصادي والتنمية الشاملة هي مهمات مثقفنا اليوم، وهي مهمات ملحة لا يستحسن قبول الاعتذارات فيها.

العدد 1102 - 03/4/2024