الزر الأحمر

عيسى وليم وطفة:

ليست المرة الأولى التي يتعرّض فيها مواطن أمريكي أسود البشرة للإذلال والضرب حتى الموت على يد الشرطة الأمريكية، التي تحكمها قوانين وقواعد رسمتها عقلية متشددة عنصرية من ذوي البشرة البيضاء. وفي كل مرّة تخرج الاعتصامات والمظاهرات إلى الشوارع في مختلف المدن الأمريكية تنديداً بالقتل غير المبّرر وللمطالبة بالمساواة بين السكان البيض والملونين، والقصاص من المرتكبين لهذه الجرائم وتطبيق العدالة بحقهم. 

لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن النزعة العنصرية في المجتمع الأمريكي قديمة منذ تشكُّل هذا المجتمع الذي أَقيمَ على مبادئ الحرية والعدالة وهو منها براء. فهناك تيار شعبي أمريكي مسيحي متعصّب إلى حد العنصرية يعتقد أن إدماج السود المستَعبدين من أصلٍ إفريقي والمهاجرين السود الجدد في المجتمع الأمريكي بعد الحرب الأهلية في تسعينيات القرن التاسع عشر بمثابة خطيئة كبرى ارتُكبَتْ بحقّ الأمريكيين البيض الذين هم من الأصول الأوربية فقط أصحاب أمريكا الحقيقيون.

وقد جرت العادة في أحداث كهذه سابقاً أن ينبري الطاقم الحكومي وعلى رأسه الرئيس الأمريكي إلى تهدئة الجموع الغاضبة، وتقديم الوعود بمحاسبة المسؤولين عن هذا العمل باعتباره عملاً فردياً ومشيناً لمن قام به، وهذا مرفوض في القاموس الاجتماعي الأمريكي والمجتمع الحرّ والقائم على المساواة. أما اليوم بعد حادثة مقتل جورج فلويد، فقد خالف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كالعادة كل التقاليد والأساليب المتبعة للتهدئة، وذهب إلى مواجهة مباشرة مع الشعب الأمريكي الذي نزل إلى الشوارع بغضب عارم، واصفاً الحشود الغاضبة التي احتلت الشوارع والساحات في أكثر من ١٤٠ مدينة بأنهم إرهابيون محليون وبلطجية وسفلة، يجب سحقهم. وأيضاً ذهب مشياً على الأقدام مدجّجاً بحرّاسه إلى الكنيسة الإنجيلية المقابلة للبيت الأبيض أثناء المظاهرات، ليرفع بيده الإنجيل المقدس ويقول: (إن الله لا يحب التخريب والتدمير)!  فهل هذا شيءٌ من جنونِ رئيس عُرف بأنه صاحب المواقف المثيرة للجدل؟ أم أن لديه حسابات أخرى دفعته إلى هذا الموقف؟ وهنا لا بد من الإضاءة على بعض الأمور:

١ – إن استحقاق الانتخابات الرئاسية المقبلة هو أهم ما يعمل عليه ترامب ومستشاريه لاستغلال أيّ حدثٍ صغيراً كان أو كبيراً لتوظيفه كنجاحٍ يُضاف إلى نجاحاته في تقديم أوراق اعتماده للناخب الأمريكي، بداية بالمواجهة الإعلامية مع الصين مروراً بإطلالاته الاستعراضية خلال جائحة كوفيد ١٩، وصولاً إلى حادثة مقتل جورج فلويد التي أراد من خلالها الرئيس ترامب أن يستميل أكثر فأكثر الناخب ذي الخلفية المسيحية المتعصبة الذي يرى أن الأمريكي الأبيض هو المواطن الحقيقي والباقي من السود والملونين هم مجرد رعاع وخدم. وهذه الجماعات الأمريكية العنصرية تشكل ما يفوق ٧٥ بالمئة من الناخبين الأمريكان، وهم الأغنى مالياً وهم الذين دعموه في انتخابات ٢٠١٦، فأراد أن يظهر أمامهم أنه مازال قوياً ليحقق إرادتهم. وقد وصفه أحد كبار رجال الكنيسة الإنجيلية بأنه (درع الله).

٢ – الرئيس ترامب ومستشاروه  يعلمون أنه من المستحيل أن يحصل على موافقة ٩٩.٩٩ بالمئة من أصوات الناخبين، كما يحصل في عالمنا العربي، وهو يعرف أن الناخبين  السود يشكلون حوالي ١٦ بالمئة من السكان، وهم من الفقراء عموماً وليس لهم تأثير كبير في الصندوق الانتخابي، وهم أيضاً منقسمون تاريخياً وعفوياً ما بين أسود من أصل عبيد المنازل، وأسود من أصل عبيد المزارع، وقد كان عبيد المنازل يقفون إلى جانب الأمريكي الأبيض المستبدّ، ضد عبيد المزارع المتمردين دوماً على سادتهم البيض. وهذا الموقف كان بسبب الخوف من أن يتحولوا إلى عبيد مزارع إذا أغضبوا سادتهم البيض. وعليه، فإن الذهاب ضدهم في المواجهة وتحريك الحرس الرئاسي، في خطوةٍ تصعيدية، لن تؤدي إلى سقوطه في الانتخابات المُقبلة.

٣- ان الرئيس الأمريكي ترامب صاحب النجاحات الكبيرة في إدارة أكبر إمبراطوريات بيوت القمار ومواخير الدعارة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبكل ما يملكه من قذارة، يعرف كيف تُدار الألعاب السياسية القذرة، خاصةً إذا كان منافسه من الحزب الديموقراطي جو بايدن لا يقلّ عنه قذارةً وانحطاطاً، بسبب  فضائحه المالية والاستخباراتية مع المافيا الأوكرانية والصينية، حسب ما هو مُعلن، والمخفي أعظم. 

٤- ان جريمة اليوم  ليست جريمة مقتل جورج فلويد الأسود على يد شخص عنصري أبيض فحسب ، وإنما هي جريمة مقتل مبادئ العالم الحرّ، جريمة مقتل مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة، جريمة مقتل مبادئ الديموقراطية والتعددية الفكرية والسياسية، جريمة مقتل مبادئ حقوق الإنسان في الحياة والعيش الكريم حتى لو كانت هذه المبادئ زائفة.

وأخيراً، إن انهيار المنظومة الاقتصادية الأمريكية المتوحشة وزوال هذه الطغمة المالية الفاسدة أمرٌ حتميّ، وهو مسألة وقت لا بُدِّ قادم، وإلى ذلك الحين سيبقى فقراء الأرض سوداً وبيضاً عالقين فوق فوهة بركان ما دام إصبع ترامب وأمثاله فوق الزر الأحمر.

٦ حزيران ٢٠٢٠

العدد 1102 - 03/4/2024