الزَّواج… ومفترق طرق
إيناس ونوس:
انتظرها
إلى أن يقول لكما الليل
لم يبقَ غيركما في الوجود….
تتوق الرُّوح لمن يُقاربها، يُلامسها، ويتقبَّل نقصانها ويكمّله، وهذه أول خطوة في طريق الحب المؤسِّس للزَّواج، هذا الارتباط الرُّوحي والجسدي واليومي، والتَّشابك في التَّفاصيل الصَّغيرة قبل الكبيرة، والتَّناغم بالأحلام، واليد باليد لتحقيق الآمال والطُّموحات.. لكن وللأسف، وعلى ما يبدو في هذه الأيام، ما على الشَّاب والفتاة اللّذَين يرغبان بتأسيس عشِّ الزَّوجية، وبناء حياةٍ أسريةٍ لطالما حلما بها، غير الانتظار الطَّويل الذي لا نهاية له في الأفق الحالي، لأن الزَّواج في أيامنا هذه بات ضرباً من المستحيل بالنَّسبة لشبابنا، فالحب وحده لا يكفي، وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ويؤسِّس البيت، بل إن متطلَّبات المعيشة صارت كبيرة وكثيرة وباهظة الثَّمن، وبأكثر ممَّا يمكن أن نتخيَّله، ما يوقع أبناء الجيل المُقدِم على الزَّواج أمام مفترق طرق، وأمام تساؤلات عديدة لا نهاية لها: كيف؟ ومن أين؟
في معرض حديثي مع بعض الصَّديقات والأصدقاء عن هذا الموضوع الذي بات مؤخّراً حديث السَّاعة كجزءٍ لا ينفصل من أحاديثنا حول المعيشة اليومية الصَّعبة، لفتني رأي إحداهن، وقد كان صادماً لي، بالرَّغم من اعترافي (نسبياً) بأحقِّيتها في بعض الكلمات التي تفوَّهت بها:
_ رغم أنّي أعيش قصَّة حبٍ في غاية الرَّوعة مع الإنسان الذي يُكمّلني ويمنحني الحب والأمان، لكني لستُ على استعدادٍ للزَّواج دون أن تتوفّر الشُّروط المناسبة، فأنا أريد مسكناً خاصاً بي، يتضمَّن كلَّ مقوِّمات البيت الذي أحلم به، ولست على استعدادٍ للسَّكن في بيت العائلة ولو إلى حين، ولا رغبة لي بالاستئجار والتَّنقُّل كل فترة، كما أني أريد كامل حقوقي الزَّوجية من مهرٍ ومصاغ، وأرغب بتحقيق حلمي بحفل زفافي الذي رافقني منذ صغري، لستُ مضطّرةً لأن أتعب وأشقى كما تعب أهلي حتى تمكَّنا من تأسيس حياتهما…. وحينما تحدثنا معاً بالموضوع، اتفقنا أن ننتظر حتى يتمكّن من تأمين كلِّ هذه الرَّغبات.
قاطعتها، متسائلةً:
_ وماذا تفعلين إن مرَّ العمر ولم يتمكَّن من تحقيق كل هذه المتطلَّبات؟ أليست الأمومة جزءاً من أحلامك؟ أليس اجتماعكما معاً أمراً أعظم؟
_ لديَّ القدرة على تأجيل هذه الأحلام مقابل تحقيق تلك الأولويات، فإن لم تتحقَّق، فهذه الأحلام لن ترى النور، أستطيع أن أتخلى عنها.
صدمتي برأيها منعتني من متابعة حديثها، وسرحتُ في أفكاري، أين الحب في كل هذا؟ والأهم، أين أهلها وأفكارهم وتربيتهم التي نشأت عليها من كلِّ هذا، وهي ابنة أسرةٍ مكافحة تمكَّنت بعد حينٍ من تأمين احتياجاتها؟
المؤلم حقيقةً أن تكون من بيئةٍ لا تمتلك شيئاً إلاّ أحلامها، وتمكَّنت من خلال الإصرار والجهد صرَّحت بها هذه الفتاة، وتحديداً في هذه المرحلة التي يعاني فيها الجميع من ضيق ذات اليد وانعدام الأفق في كثيرٍ من الأحيان، وما يزيد الصَّدمة أكثر أن نسبةً لا بأس بها من فتيات مجتمعنا بتن على شاكلة هذا النَّموذج، يُردن كل شيء جاهزاً، دون أن يتعبن به، ويقبلن بأن يكنَّ جزءاً مُكمِّلاً لذاك الدِّيكور الذي على الشَّاب وحده أن يؤسِّسه، وما عليهن إلاّ فرض الشُّروط والمواصفات التي يردنها، دون تفهُّمٍ للظُّروف الاقتصادية والمعاشية التي يعيشها معظمنا، والأكثر قهراً حين ينجم هذا التَّفكير عن وعي بكل هذا، ومن ثم…. تبريره!
أمسى الزَّواج من الأحلام الصَّعبة التَّحقيق، بحكم الوضع المعيشي المتردي سوءاً يوماً بعد يوم، لكن بقليلٍ من المساندة بين الشَّاب والفتاة، بقليلٍ من الوعي بأهمية الزَّواج، وتأسيس أسرةٍ وإنجاب أطفال، مقارنةً بمتطلَّباتٍ أخرى يمكن تأجيلها إلى حين، يمكن تجاوز بعض الصُّعوبات، غير أن الأمر يغدو أكثر تعقيداً حينما نريد أن نجمع كل التَّفاصيل معاً وفي الوقت ذاته، فغالبية شباننا وشاباتنا من الشَّريحة الأوسع، الشَّريحة التي لا تملك شيئاً، وليس بمقدور محيطها أن يمدَّها بالمساعدة إلاّ بالنَّذر القليل، والعمر لن ينتظر حتى نحقِّق كلَّ ما نرغبه، ولذلك فالثَّمن الذي يجب أن يدفع باهظٌ جداً، فإما الزَّواج بمساندة بعضنا يداً بيد، وشيئاً فشيئاً، لنكبر مع أطفالنا ومع أحلامنا بهم ومع أحلامهم، وإمّا أن ننتظر، فيفوتنا العمر ونكبر ونخسر الكثير من التَّفاصيل الحياتية المهمة.
إنه خيارٌ صعبٌ بكلِّ معنى الكلمة، خيارٌ يؤلم الأهل الذين يحلمون برؤية أبنائهم سعداء وهم يؤسِّسون حياتهم، وبرؤية أحفادهم، ويؤلم أصحاب العلاقة المباشرين، فما ذنب الشَّاب الذي لا يملك إلاّ قلبه ومشاعره وحبه، وبعضاً من أحلام؟؟ ولماذا يُطلب منه ما هو فوق طاقته وقدرته على التَّحمّل؟ في الوقت الذي من المفترض أن يجعله هذا الحب طيراً محلِّقاً في الفضاءات الواسعة؟
تساؤلاتٌ واستفساراتٌ تخنقنا جميعاً، وتقتل الأمل في أعماقنا.