المؤسسة الزوجية بين الواقع والتقليد المُتناقل

يارا بالي:

خلق الله هذا الكوكب بتناغم عظيم، وتكامل لا حدود له، وخلقنا نحن البشر صفوة المخلوقات، وأنبلها، وميّزنا بنعمة العقل عن سائر خلقه، فكلٌ يؤدي دوره بانتظامٍ دقيق لبناء هذه المعمورة، وفَطَرَ فينا نحن البشر حُبّ الاجتماع من النشأة الأولى، فمنذ خلق الله سيدنا آدم أوجد له أنثاه (السيدة حواء) ليأوي إليها، ويسكن فيها، في علاقة أعظم ما فيها المودة، والرحمة، وكان هذا من سبل استمرار البشرية، وتزايد نسلها، لنُعمّر الأرض، ويُكمِل كل مخلوق الآخر بسلام وكينونة.

ومع تطور الحياة وتزايد الوعي البشري، والانفتاح على الحضارات، أصبحت الأمور أكثر تعقيداً، وأصبح الإنسان يحتاج إلى خطة لتنظيم شؤون يومه، وأملاكه، وكل متطلباته، ومن هنا نشأت القوانين، كما ظهرت المؤسسات كسماء جامعة لها، يؤدي كل فرد مهمته ضمن المؤسسة التابعة لها، في مناخ القانون الذي يحميه، ويحمي الآخر من أيّ زلل أو خطأ.

وهنا برزت المؤسسة الأعظم في التكوين الإنساني ألا وهي المؤسسة الزوجية، التي تُعدُّ حجر الأساس في بناء المجتمعات وعليها المسؤولية الأكبر في صلاح المجتمع أو خرابه.

ومن أهمية الزواج في المجتمعات يطرح سؤالنا نفسه، على ماذا بُنيت هذه المؤسّسة، وما الأُسس التي ترعاها وتحميها؟؟

اختلفت نظرة الشعوب إلى الزواج، وطقوسه، والأعراف التي تصاحبه منذ يوم الخطبة إلى ليلة الزفاف، واتفق الجميع على أهمية المهر، وما يفرضه من متقدم ومتأخر، وذهب، وضرورة وجوده كحماية لحقوق الزوجة، وكدلالة على قيمتها، ووجودها، وغدا المال هو البوصلة التي تُحدّد الاتجاه الذي ستذهب إليه العلاقة بعيدين في هذا كل البعد عن قيمة هذا الرابط المقدس وعمقه، وعن الهدف الأساسي لوجوده، متناسين أن المال لا يشتري خُلقاً طيباً، تبنى فيه الأسرة، في جوٍّ من الألفة والمحبة.

الزواج الناجح عبر التجارب الطويلة لم يقترن على مرّ الحياة بأيّ قيد، فلا المال ولا الشكل ولا النسب والجاه استطاع أيٌّ منها أن يقف عائقاً في وجه علاقات قامت على التناسب الفكري، والأخلاقي، والروحي بين الطرفين.

فكيف للفقر المادي أن يقف عائقاً في وجه شرع الله وفطرته الطيبة فيمن اصطفاهم من خلقه، لاسيما في ظلّ هذه الظروف الاقتصادية القاسية التي نحياها اليوم؟!

فقد تجاوز سعر غرام الذهب الواحد ألوفاً خيالية، وتضاعفت أسعار الأثاث المنزلي وكل لوازم العرس من أصغر تفصيل إلى أكبره، وغدا الإقبال على الزواج بالنسبة للشّاب السوري أمراً بغاية الصعوبة، وتحدّياً غالباً ما يصعب عليه خوضه، وصرنا أمام مشاكل لا تقلُّ عن سابقتها خطورة، ألا وهي ارتفاع نسب الإناث غير المتزوجات، وزيادة نسبة الرذيلة والانحلال الأخلاقي في مجتمعنا كنتيجةٍ طبيعية لصعوبة الزواج بصورة شرعية، ولا أبالغ إذا قلت إن في هذا دفعاً للشباب باتجاه الكسب غير المشروع في بعض الأحيان ليُرضي الفتاة التي أرادها، أو ليُرضي أهلها ويؤمّن ما يُطلب منه من التزامات مادية تُثقله.

فالخطأ الأكبر يكمن في نظرتنا إلى الزواج، ومفهومنا لموضوع المال، وعلاقته بالشريك، كما يكمن في نظرتنا إلى ذاتنا، وتقديرنا لها.

فمن غير المعقول أن يبقى التقييم للزوج الجيد مرتبطاً بقدرته المادية وسخائه بالمهر والذهب والبذخ المالي، وربط هذه الأمور بحماية الأنثى وحقوقها.

فكم من باذخٍ سخيِّ الجيب في البدايات، أظهر وجهه الحقيقي بعد الزواج، واتضحت الصورة أكثر، وصرنا ندرك أن الكنز الحقيقي خلقٌ سمح كريم في العطاء رغم القليل الذي وجد مكافحة لتحقيق نفسه برزقٍ حلال.

وكما يقال خير الأمور أوسطها، فلا نستطيع أن نعد مظاهر البذخ في الزفاف، وتجهيزاته، وكثرة الأمور الشكلية والذهب والمهر هي الأمان الذي تتكئ عليه العلاقة، بل على العكس قد يتحول المهر العالي إلى وسيلة ضغط على الأنثى بعد الزواج، فلا يتمُّ الطلاق إذا أرادته إلّا بتنازلها، ولنكن على قناعة أن أحوال الدنيا بتغيّر مستمر، وأن ضمير الإنسان وأخلاقه هنا هي الأبقى، خاصة في ظلّ ما نحياه من فوضى وظروف طارئة.

فالمحبة فكرة في النفس البشرية، وقد خلقنا الله وأوجد فينا الانجذاب إلى الآخر مهما كان لوننا أو ديننا أو حتى البلد الذي ننتمي إليه، وما هي إلّا فروق شكلية والجوهر واحد.

العدد 1102 - 03/4/2024