الدولة المركزية القوية هي القادرة على مواجهة الأزمات الكبرى
محمد علي شعبان:
نشرتُ على صفحات الفيسبوك، وفي بعض الجرائد سابقاً، منشورات أشرت فيها إلى دور الدولة المركزية القوية، التي تستطيع حماية أبنائها، ورعايتهم وحماية مصالحهم، وتستقوي بهم فيما لو تعرضت لأخطار خارجية أو داخلية.
والآن أتحدث عن دور الدولة القوية في صناعة المواطنين الأقوياء، وعن دورهم في تشكيل الدولة القوية.
فالدولة أمّ لجميع أبنائها، تعطيهم عندما يحتاجون، وتأخذ منهم عندما تحتاج إليهم، وسأذكر بعض الأشياء التي تفيد هذا الموضوع الهام:
من يعي هذه الحقيقة عليه أن يضع نصب عينيه الحفاظ على الدولة، كيفما كانت، ويعمل على تقويتها، لكي تصبح دولة قوية، لأن الدولة القوية هي القادرة على تأمين الأمن والأمان الصحي والغذائي والاقتصادي لجميع المواطنين، وهي القادرة على حماية حدودها، وكرامة مواطنيها.
فكيف تكون الدولة قوية؟
هذا السؤال يحتاج إلى إجابات من جميع المهتمين بالشأن العام، السياسي والفكري، لنتمكن جميعاً من تبادل الأفكار، ووجهات النظر، حول هذا الموضوع الهام والضروري، في ظل الهجوم الشرس، من قبل الشركات العابرة للقارات، على الدول المركزية، القوية، بغية تحويلها إلى دول ضعيفة، تعمل لخدمة تلك الشركات، المملوكة من بعض الرأسماليين، الذين لا تعنيهم حياة البشر وعذاباتهم، بقدر ما يعنيهم جمع المال بعيداً عن أي ضوابط أخلاقية أو إنسانية.
إن عناصر القوة عديدة ومتنوعة، ولا تُختزَل بجانب واحد محدّد. إن جميع النشاطات المتعددة، بتكاملها، تصنع الدولة القوية، لكن الدور الحاسم والأساسي في بناء أية دولة، وفي تهديمها، هو المواطن.
فكيف يكون المواطن قوياً متماسكاً، يتفانى من أجل بناء دولة قوية، يشعر بأنها الحضن الدافئ الذي يحقق له ولأسرته الأمن والاستقرار والطمأنينة؟
وكيف يمكن تحقيق ذلك؟
إن للقوة أركاناً عدة، أهمها:
1- بناء الإنسان الموجود على أراضي الدولة المعنية، بوسائل وأدوات علمية، تؤكد حقّه في الحياة الحرة الكريمة، بعيداً عن الأنانية وحب الذات، والأمراض الاجتماعية والنفسية التي كرستها المؤسسات الدينية من جهة، والقيم الرأسمالية المتوحشة من جهة ثانية، طيلة عقود من الزمن، والتي كان لها الدور الأساسي في تشكيل انزياحات وطنية، وخلق تناقضات مجتمعية، تعيق بناء الدولة التشاركية، التي يحتاجها جميع المواطنين الأحرار.
إن البناء الوطني الصحيح للمواطن، المعطاء، يحتاج بالدرجة الأولى إلى ثقافة مواطنة، تنعكس في سلوكه، ويقدم النموذج الأمثل لمن حوله، في المساواة والعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، ويشعر فيها جميع المواطنين على حد سواء، بالمسؤولية الوطنية، ويعملون على تنفيذ الواجبات وعدم التقاعس، وغياب ثقافة التمييز بين مواطن وآخر، على أساس ديني، أو عرقي أو طائفي. هذه الثقافة تساعد في:
-إغلاق أبواب التدخل الخارجي، وتسليط الضوء على الأطماع الخارجية في الدولة، وتمنع وجود نقاط ضعف في بنيتها، وتهييء المناخ المناسب للاندماج الوطني الطوعي بين جميع المواطنين على اختلاف طوائفهم وقومياتهم، ومعتقداتهم، فيصبح الانتماء الوطني غاية الجميع، ما دام يحقق المساواة والعدالة الاجتماعية. وتصبح الانتماءات الدينية والطائفية والمذهبية، من دون قيمة فعلية لمن يحب الحياة الحرة الكريمة للجميع.
إن خلق ثقافة جديدة، تتناقض بالشكل والمحتوى مع ثقافة الاستغلال، والاستبداد، يجب أن تكون هدفاً جامعاً، وأن يعمل جميع المواطنين بوعي وإرادة على خلقها وتبنيها، والعمل على تحجيم دور المؤسسات الدينية واقتصار عملها على بعض الطقوس، الفولكلورية لمن يرغب بها، احتراماً لحقوقه الإنسانية، التي لا يجوز أن تتعارض مع الحقوق العامة لجميع المواطنين.
وعندما يتشكل المواطن النموذج، والمعدّ بالشكل الصحيح، يتحقق ركن أساسي من أركان الدولة المطلوبة.
2-الركن الثاني هو الثقافة المجتمعية التي تعتمد المنهج العلمي المتطور في إدارة شؤون الدولة، على الصعيدين الداخلي، والخارجي، والتي تقوم على اعتبار أن جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، ولا يجوز التمييز بين حاكم أو محكوم، إلا بحكم قضائي يصدر عن هيئة قضائية مستقلة ونزيهة مراقبة من هيئات عليا، تخضع للمساءلة الشعبية إذا اقتضت الضرورة ذلك.
إن استقلال القضاء عن السلطات التنفيذية والتشريعية، يجعل الرقابة الشعبية على السلطات الثلاث أمراً مشروعاً وضرورياً، بعد إلغاء المحاصصة، والمحسوبيات المدمرة لبنية الدولة، والتي عملت على تكريس الفئوية، والمصالح الخاصة، والتي أدت إلى إعاقة الاندماج الوطني، الذي يعتبر أحد أركان بناء الدولة المنشودة.
3-إن إدارة هذه الملفات بطريقة علمية تنعكس إيجاباً على المواطنين من جهة، وعلى الدولة من جهة ثانية.
كما تحتاج إلى خبرات وطنية موثوقة، ومراقبة تتميز بالكفاءة، والنزاهة، والولاء للدولة، يجري اختيارها بطرق مختلفة، بالشكل والمحتوى، عن الطرائق السابقة، التي أضعفت الدولة، وأضعفت القطاع العام، الذي يشكل الضامن الحقيقي لبناء دولة قوية وعادلة للجميع.
4-كيف يمكن بناء الدولة دون قوى وأدوات إنتاج متطورة من أجل تحسين الموارد الإنتاجية التي تديرها الدولة، وتعمل ليس على دعم الموارد وتطويرها فقط، إنما يجب أن تعمل على خلق موارد جديدة، تتناسب مع حاجات المجتمع بغية التطوير الدائم وصولاً إلى الاستغناء عن الأسواق الخارجية وشروطها القاسية. وهذا يقتضي الاهتمام الجدي بإعداد الأجيال الجديدة إعداداً صحيحاً، من أجل بناء مستقبل أكثر آمناً وأكثر استقراراً للأجيال القادمة.
لا يختلف اثنان على أهمية اعتماد قانون جمع القوى، باعتباره حقيقة علمية أثبتت تجارب الشعوب صحته بالقول والفعل. وقانون جمع القوى يقتضي الشراكة على إنجاز هدف أو مجموعة أهداف بعقلية تشاركية يزداد تأثيرها، كلما ازدادت قوتها.
وهذا يقتضي جمع الطاقات الوطنية، الكامنة، باعتبارها شريكة حقيقية في بناء القوة الجديدة، التي تتشكل من القوى الوطنية، وتعي خطورة القوى الخارجية التدخلية، وتعمل على إضعاف تأثيرها، كلما تطورت الإمكانات الوطنية المتنوعة علمياً وتقنياً. وهذا التطور يحتاج إلى استراتيجية جديدة لتطوير وسائل البحث العلمي، أسوة بالبلدان التي تطورت في جوارنا.
أخيراً، هل يمكن بناء الدولة المركزية القوية كما نتمنى ونرغب، عندما تكون الأبواب مفتوحة أمام المستثمرين الخارجيين، وعندما يجري إهمال الطاقات الداخلية الوطنية؟
لابدّ من إعادة النظر بقانون الاستثمار، الذي يعطي القطاع الخاص، والمستثمرين العرب وغير العرب صلاحيات زائدة، ويحدّ من دور الدولة التدخلي في الرقابة لحماية المواطنين، والاقتصاد الوطني.
لقد عاشت سورية تجربة القطاع العام، في العديد من المجالات، وأثبتت نجاحاً في عدة مؤسسات. لقد كانت مؤسسة الإسكان العسكرية رائدة في مجال البناء، والعديد من القطاعات الصناعية المتميزة.
ومازال القطاع العام الصحي جيداً، مقارنة بالعديد من دول الجوار، رغم كل ما تخلله من فساد مقصود وموجه من أجل إفشاله، باعتباره الضامن الأهم لحياة الفقراء.
وبناءً عليه، لا يمكن بناء دولة قوية دون قطاع عام قوي ومسيطر، يقوم بدور رقابي على جميع القطاعات الإنتاجية والخدمية الخاصة، وإجراء تغييرات فعلية في بنية العديد من المؤسسات ونهجها، من أجل إعادة دورها ونشاطها، بعد تخليها عن البيروقراطية، والمحسوبيات، التي كان لها دور هام في ترهلها وتراجع دورها.
رغم أن قوى العدوان الكوني، ليس من مصلحتها وجود دول قوية، لكن الحياة الكريمة تقتضي العمل الجاد من أجل مستقبل آمن للشعوب، وهو ما يتطلب المواجهة والصراع مع كل قوى تعيقه، أو تقف في طريقه.