طابور الجياع يزحف
يونس صالح:
مع طلوع أول شعاع للشمس يتساقط كل يوم أكثر من مئة ألف إنسان من الجوع، كما يودع الحياة ما بين ثمانين ألفاً ومئة ألف صرعى بأمراض سوء التغذية، وهناك ملايين الناس يتهددهم الضعف الجسماني والعقلي الناتج من الجوع المزمن.
إن مصادر الأمم المتحدة تؤكد وجود أكثر من 500 مليون نسمة يعانون من نقص التغذية، ويوجد العدد نفسه الذي يعاني من سوء التغذية، أي أن واحداً من كل سبعة تواجهه مشكلة الغذاء.
وتشير الدراسات إلى أن بؤر الجوع تتركز في العالم الثالث، ففي إفريقيا قدِّر أن ستة من كل عشرة أفراد ينامون جوعى، وفي آسيا ذكر أن هناك أكثر من نصف مليار نسمة لم يحصلوا على غذاء كاف خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
ولعل أخطر جوانب مشكلة الغذاء هو ما يتعلق بالأطفال، إذ يترتب على عدم تناولهم كفايتهم من البروتين تلفٌ في خلايا المخ، وهي مأساة إذا حلت لا يمكن إصلاحها.
إن طابور الجياع يتزايد سنة بعد سنة، مما يجعل المجتمع البشري ملزماً بمواجهة أصعب مهمة، ألا وهي توفير الغذاء لسبعة مليارات نسمة في وقتنا الحالي.
ولعل مكمن الخطر في البدان العربية يتمثل في حاجتها الملحة، إلى حد التبعية، للمواد الغذائية، إذ تنخفض مستويات الاكتفاء الذاتي في إنتاج السلع الغذائية بحيث أصبحت مضطرة الآن لاستيراد نصف ما تستهلكه من الحبوب، وثلثي استهلاكها من القمح، وثلاثة أرباع حاجتها إلى السكر، وثلث استهلاكها من اللحوم، وما يقرب من نصف احتياجاتها من الألبان، وبذلك أصبحت الواردات الغذائية تمثل أعباء مالية باهظة.
يرى المحللون الغربيون أن هاك عدداً من العوامل التي أدت بالعالم إلى مثل هذه الأوضاع المتردية، ويمكننا تصنيفها في مجموعتين، أولاهما: التغيرات الطارئة في المناخ والعوامل الطبيعية الأخرى التي أدت إلى ظاهرة الجفاف والتصحر.
ثانيتهما: مسؤولية المجتمعات النامية نفسها في تفاقم الأزمة الغذائية التي تتمثل في الحروب، وقطع الأشجار، إضافة إلى فشل السياسات الاقتصادية في تلك الدول، وسوء الإدارة، إلى جانب الانفجار السكاني الذي يعتبره الكتاب الغربيون من أهم العوامل المسببة لانتشار المجاعات في الدول النامية.
وسوف أستعرض بعض تلك العوامل على ضوء الدور الذي تلعبه الدول الإمبريالية المتقدمة في تعميق هذه المفاهيم وترسيخها في العالم.
بداية نذكر أن التحليل العميق للمشكلة يؤكد أن ظاهرة الجفاف في العالم ليست جديدة، ويبقى لدينا سؤال الآن هو: ماذا حدث لنظام تطور عبر قرون لمواجهة الجفاف الدوري؟ ولماذا تحولت ظاهرة الجفاف في عضونا الحالي إلى كارثة؟
إن تحليل ذلك الوضع يستلزم عرض الحقائق التالية:
إن ظاهرة الجفاف يصعب عزلها عن تدهور التربة أثناء الاستعمار، نتيجة للزراعة الكثيفة للمحاصيل التي تخدم أهداف الاقتصاد الاستعماري، وعندما تتدهور التربة يظهر التصحر، أي تختفي النباتات وتزحف الصحراء.
من الخطأ النظر إلى مأساة الجفاف والمجاعة كما لو كانت كارثة طبيعية مثل الزلازل والبراكين والأعاصير، فالجفاف وزحف الصحراء لا يدخلان ضمن الكوارث الطبيعية، بل يحدثان نتيجة لسوء استخدام الناس للطبيعة أو عجزهم عن التغلب على ظواهر قابلة للسيطرة، إن الجفاف ليس السبب الرئيسي للمجاعة، بل إن التخريب الاستعماري الاستعبادي الطويل هو السبب، لذا فإن التركيز على الجفاف وحده، مع تجاهل النظام السياسي والاقتصادي للاستعمار القديم والجديد أيضاً، لا يساعد على المواجهة الجادة لهذه المشكلة وسبر أغوارها.
استغلال الشمال للجنوب
إن الكوارث الغذائية في العالم الثالث ليست، كما يصور بعضهم، راجعة إلى ضيق مساحة الأرض، كما لا ترجع إلى سوء المناخ رغم تأثيراتهما، وإنما ترجع إلى خضوع الغذاء لسيطرة الدول الإمبريالية الغنية، مما يجعل شعوب تلك البلدان وحدها تعاني من هذه الأزمة. إن هناك استنزافاً واستغلالاً حقيقياً من جانب الغرب لشعوب العالم الثالث، مما يؤدي لاستنزاف ثروة (الفقراء) مرتين، إحداهما باستيراد المواد الخام بأبخس الأثمان، والثانية بتصدير السلع المصنوعة بأغلى الأثمان.
إن المجاعة تحدث في الدول النامية عندما تحافظ الدول الرأسمالية المتقدمة على أسعار مرتفعة لصادرتها الغذائية، ومعنى ذلك أن للنظام الاقتصادي العالمي دور لا يستهان به في تفاقم المجاعات في العالم الثالث، إذ لا تجد تلك الدول مفرّاً من طلب المساعدات والقروض من تلك الدول الرأسمالية، فيثقل اقتصادها بالديون التي أصبحت لا تقل حالياً عن تريليون ونصف تريليون دولار، إن ما فعله صندوق النقد الدولي مع مصر من عام 1978 إلى عام 1981 هو مثال فاضح على ما تحدثنا عنه، لقد دخل مصر عام 1978 وهي مدينة بمبلغ 800 مليون دولار، وخرج منها عام 1981 وهي مدينة بأكثر من 18000 مليون دولار، أي إن كل مواطن مصري في ذلك الوقت أصبح مديناً عالمياً بحوالي 442 دولار، بينما لم يكن دخل الفرد آنذاك يتعدى 460 دولار في السنة.
غذاء الكلب وغذاء الإنسان
إن المتتبع لسيل الكتابات الغربية يلاحظ ما توليه هذه الكتابات لزيادة السكان في الدول النامية، وعلاقة ذلك بالمشكلة الغذائية، غير أن التحليل العميق يؤكد أن المشكلة السكانية ليست بهذا الحجم الذي تضخمه الكتابات الغربية، كما أن هذا العامل ليس وحده مسؤولاً عن الأزمة الغذائية، إذ تتداخل إلى جانبه عوامل أخرى بعضها قد يكون أكثر خطورة.
لقد علق أحد علماء التغذية قائلاً بأن ما يستهلكه 300 مليون أمريكي من غذاء، يمكن أن يتغذى عليه أكثر من مليار هندي حسب متوسط التغذية في الهند، إن استهلاك الأمريكي للحبوب يتمثل في تحويلها إلى ماشية ودواجن، وقد وصل استهلاك اللحوم هناك إلى درجة مرتفعة تزيد عن الاحتياج الجسماني، إن جزءاً واحداً من عشرين من كمية الحبوب التي أطعمتها البلدان الرأسمالية المتطورة لمواشيها كانت كافية لإنقاذ أولئك الذين هلكوا من الجوع في البلدان النامية.
والأغرب من ذلك، أن ما يأكله كلب عند عائلة أمريكية مثلاً يبلغ ثلاثة أضعاف ما يأكله إنسان في بعض نواحي الهند أو بنغلادش.
والآن نستطيع في ضوء هذا الاستعراض المبسط لجوانب المشكلة الغذائية التوكيد على مجموعة من الحقائق المجردة:
لا شك أن واقع الجفاف والتصحر في الدول النامية يشير إلى فعل العوامل الطبيعية، إلا أنها من صنع الإنسان سواء في البلدان الإمبريالية المستغِلّة أو في العالم النامي المقهور.
لا يمكن أن نخلي أسلوب الإدارة والحكم في بلدان العالم النامي من مسؤولياته وخاصة فيما يتعلق بالتسلح.
لا نستطيع أن نهمل تماماً دور الزيادة السكانية، لكن دورها ليس بهذا الحجم الذي تضخمه الكتابات الغربية، غير أننا يجب أن نعترف أن العالم يواجه أزمة غذائية، وعليه أن يحقق زيادة في إنتاج الغذاء، يجب أن تصل في البلدان النامية على سبيل المثال إلى ما لا يقل عن 200%.
من الضروري الإيمان بدور العلم في مواجهة زحف الجياع، وفي ذلك يقول أحد الخبراء، إنه على الرغم من أن العلم لم يسبق أن ووجه بمثل هذا التحدي، لكننا من جهة أخرى نجد أن العلم لم يكن من قبل مسلّحاً بكل تلك الأسلحة التي أصبح من الممكن استخدامها لمحاربة الجوع، وهو، بلا شك، التحدي الأكبر الذي يواجهنا، ولن يتأتى لنا ذلك إلا بالإدارة الجادة، والعمل الدؤوب المخلص وتلك هي المشكلة!
بالنسبة لبلدنا، فإن غياب بعض شروط الحياة اللائقة التي يجب أن تتوفر للمواطن السوري، بسبب معاناته أولاً من الحرب الظالمة التي تخاض ضد بلاده، وسياسة الحصار المجرمة من قبل الدول الإمبريالية، وثانياً بسبب الإدارة الفاشلة للحكومة لشؤون البلاد، لم تدفع إلى الآن بهذا المواطن إلى مجابهة لهذه المشكلة، كما فعلت قرارات رفع أسعار الغذاء في سورية، أعوام الثلاثينيات، فقد أدى رفع سعر رغيف الخبر قرشاً واحداً، إلى إسقاط جمهورية تاج الدين الحسيني، حين سارت المظاهرات تندد بسياسته، لأنه رفع سعر الخبز، ونأمل أن تتعظ حكومتنا الموقرة من درس التاريخ ذاك.