ماذا قدمت الدراما؟

مرح محمد نبيل السمكري:

ربما للتسلية، ربما لتعبئة الوقت، أو الهروب من الواقع قليلاً، نتربّص أمام شاشة التلفاز لنشاهد ما أعدّوه لنا من مسلسلات درامية، لكن أغلب الناس لا يرون في الدراما سوى حبكة رومنسية مع القليل من الممثلين الوسيمين والممثلات ذوات الطلّات الأخّاذة، أغلب الناس يجهلون أن الدراما من أسمى أنواع الفنون وأجملها وأكثرها تأثيراً في النفس، إضافة إلى أنها تندرج تحت مُسمّى وسائل الإعلام غير المباشرة.

الدراما هي تجسيد حدث أو واقعة من وقائع الحياة، والتعبير عن طريقة التفاعل الإنساني حيالها، وطرح ما يجول في النفس من أحاسيس وأفكار. بدأ هذه الفن كأحد طقوس عبادة الإله ديونيسيوس، فقد كان الناس يقدمون المسرحيات على شكل أشعار ومرثيات في عيد الإله، وكان المسرح يُعدّ في العهد اليوناني مكاناً مقدساً كما المعبد. تطور علم الدراما عبر الزمن مُجسداً الأحداث والتطورات والصراعات البشرية ليصل إلى الشكل الذي نراه الآن.

لكن ما أهمية كل هذا؟ لماذا تُنفق شركات الإنتاج مئات الملايين سنوياً من أجل إصدار مسلسل واحد؟ لماذا تجد في شارة المسلسل عشرات أو مئات الأسماء التي شاركت في إنجاز هذا المسلسل؟

لقد غيّرت الدراما في شخصياتنا ما لم نكن نتوقعه، قولبتنا بقوالب لم نخترها، فمنذ طفولتنا عندما كنّا نتسلل لرؤية مشهد من مسلسل وما تلبث أن تنهانا أمهاتنا وترسلنا لنكمل وظائفنا، كنّا نتشرّب جرعات بسيطة من تأثير الدراما، كنّا نقف في باحات المدارس ونتدارى خلف الصبيان الذين يتضاربون كأنهم (المعلم عمر) أو (أبو شهاب)!

أما البنات فكانت أقصى طموحاتهن أن يكبرن ويلبسن كما لبست الممثلة فلانة أو كما وضعت المكياج الممثلة الأخرى.

وفي المراهقة، تتقولب قصص الحب في مخيّلات الشباب كما حصرتها الدراما، فلو طلبت منك تخيّل لحظة رومنسية بينك وبين شريكك ستتذكر فوراً لقطة من أحد من المسلسلات، ترى كيف سيكون تعبيرنا عن مشاعرنا لولا الدراما؟ كيف سيكون التعبير عن المشاعر من غير الشموع وبتلات الورد المرميّة على الأرض، ومن غير تلك الكلمات المحفوظة التي تُقال في كلّ مشهد رومنسي؟

تأثير الدراما أعمق حتى من كل ما سبق، لقد باتت قادرة على تغيير وجهات نظرك السياسية، أو الدينية، أو مبادئك حتى، فهي تتسلل إلى عقلك الباطن وتقنعك بأشياء لا تشبهك، فمثلاً أصبحت مقتنعاً أن كل فتاة محجّبة تعتبر غبية وجاهلة ودرويشة، وكل رجل يقيم الصلاة في الجامع ما هو إلّا بذرة لداعش، وكل مريض نفسي مجنون، وكل طبيب نفسي غريب الأطوار بشعر مبعثر وردود فعل عصبية. مع أن الواقع مختلف تماماً، فالفتاة المحجّبة إنسانة طبيعية، قوية وجميلة وتحب الفن والرقص والحياة والحب والنجاح، والرجل الذي يصلّي في الجامع كائن طبيعي ولا يملك أيّ مخططات إرهابية، والمريض النفسي ليس مجنوناً إنما هو متعب فحسب، والطبيب النفسي شعره مرتب وردود أفعاله متزنة وطبيعية.

أضف إلى ذلك دسّ السموم السياسية، لذلك أسلفت في بداية المقال أنها وسيلة من وسائل الإعلام غير المباشرة، فتقنعك أن فلاناً جيد، وفلاناً آخر سيئ وكاذب، حتى في المسلسلات التاريخية التي تشوّه التاريخ وتظهر بطلاً على أنه خائن أحمق، إضافة إلى أن الدراما تكوّن لديك نظرة عن البلد المنتجة للمسلسل، فجميعنا صار يعرف أن بلاد الخليج يعيشون في منازل فارهة وفخمة، وأن الشعب اللبناني متحرّر، والشعب التركي يتمتع بالجمال والكاريزما، كل هذا عرفناه من دون أن نسافر إلى تلك البلاد، ولم نتابع تقريراً إعلامياً عنها.

للدراما أيضاً أوجه إيجابية عظيمة عندما تقع في يد من يستحق، فهي تعلّم، وتثقّف، وتغيّر للأفضل، مثل مسلسل (وراء الشمس) الذي علّمنا ماذا تعني متلازمة داون، ومسلسل (أشواك ناعمة) الذي شرح لنا ما تعانيه المراهقات، ومسلسل (الفصول الأربعة) الذي يُشعرك أنك فرد من أفراد هذه العائلة المتماسكة، ومسلسل (شوق) الذي صوّر لنا ما تعانيه المخطوفات والسبايا، وما يعانيه مرضى الزهايمر، وغيرها كثير من الأعمال التي تترك في داخلك أثراً عميقاً.

لذلك على كل كاتب بعد أن ينتهي من كتابة نصّه أن يسأل نفسه: ماذا قدّمت؟

العدد 1104 - 24/4/2024