سباقٌ رمضاني وملاحظات متكررة
إيناس ونوس:
في كلِّ عامٍ يأتي شهر رمضان يحمل معه سباقاً درامياً بين المسلسلات، بين شركات الإنتاج، وبين المحطَّات التلفزيونية، وما على المشاهد إلّا انتقاء ما يريده ويتابعه، في حين تختلف كمية العروض من عامٍ إلى آخر نظراً للظُّروف، فقد لاحظنا قلَّة إنتاج الأعمال السُّورية مثلاً في السَّنوات الأخيرة بحكم الحرب مقارنةً بما كان الحال عليه قبلها، وجاء الوباء العالمي هذا العام فحدَّ من إنجاز كثير من الأعمال، حسبما تتناقله الأخبار.
في كلِّ عامٍ، وفي هذا الموسم الدّرامي، نتناول الأعمال المقدَّمة من وجهة نظرنا كمشاهدين، يعايشون الواقع ويلمسون مدى مقاربة هذه الأعمال لهذا الواقع أم لا.. يلاحظون مقدار اهتمام هذه الأعمال وكل القائمين عليها بعقل المتلقِّي أم لا، سواء كان القائمون ممثلين أم منتجين أم كتَّاباً أو مخرجين.
لستُ من الأشخاص المتابعين بشكلٍ حثيث للتلفزيون عموماً وللدّراما خصوصاً، إنَّما من خلال ما تابعته وأتابعه، لفتت انتباهي بعض الملاحظات السَّلبية التي آن للدّراما أن تتخلَّص منها، وأن ترتقي بذاتها وبجهود القائمين عليها من جهة، وبعقولنا كمتلقَّين من جهةٍ أخرى، وهذه الملاحظات على سبيل المثال لا الحصر:
– باتت الموسيقا التَّصويرية الفاصلة بين المشاهد التَّمثيلية أو التي تتخلَّل حواراً ما، في بعضها، طاغيةً على الحوار أحياناً لدرجة أننا لا يمكننا سماعه أو فهمه، ما يشعرنا أحياناً بالملل.
– المكياج الصَّارخ للممثلات، والذي لا يتناسب مع كلِّ المشاهد، فهل من المعقول أن يكون المكياج كاملاً وبأفضل حالاته حينما تكون الممثلة نائمةً في فراشها، أو حين تستيقظ، أو عند خروجها من الحمَّام مثلاً؟ كيف ستقنعنا الممثِّلة المكتملة المكياج بعملها وإمكانياتها حين تجسِّد شخصيةً فقيرةً تعاني الجوع والعوز وهي بكامل أناقتها ومكياجها؟ أو إن كانت تجسِّد دور مريضة على فراش الموت؟
– من جانبٍ آخر، تم إدراج التُّكنولوجيا الرَّقمية في المشاهد التمثيلية كالموبايل والنت وغيرها وهذا أمرٌ بديهي، لكن ما يفوت المخرجين تحديداً والممثلين من بعدهم، أنَّ المشاهدين ليسوا جميعاً بالمستوى نفسه من حيث التَّعامل مع هذه التِّقنيات، فوجود مشهد حدثه الرَّئيسي رسالةٌ على الموبايل مثلاً تُعرض على الشاشة ليفهم المشاهد من خلالها حدثاً معيناً، وعدم قراءة الرِّسالة من قبل الممثِّل بصوتٍ واضحٍ يُصعِّب على غالبيتنا وصولنا إلى الهدف المنشود من المشهد، فالكتابة مهما كانت واضحةً لن تتوضَّح للمشاهد الذي يبعد عن الشَّاشة مسافة مترٍ أو مترين على أبعد تقدير، إضافةً إلى وجود العديد من المتلقِّين الذين ما يزالون غير قادرين على القراءة بسرعةٍ، أو ربما غير قادرين على القراءة بحدّ ذاتها.
– يأتي الدَّور هنا للحديث عن الإنتاج تحديداً، ومحاولاته الحثيثة للاستخفاف بعقول المتلقين، من خلال سعيه وراء الأعمال التي لا تتضمَّن أفكاراً هادفةً وإنَّما فقط للتَّسويق بهدف كسب الرِّبح، فهذه الأعمال التي تندرج تحت مسمى الكوميديا مثلاً، والتي باتت أبعد ما يكون عن الكوميديا الهادفة تجد سوقاً واسعاً للتَّصريف مقارنةً بأعمالٍ أخرى كوميدية أو غيرها تتبنى رؤىً مجتمعيةً متنورةً أو قيماً فكريةً بنَّاءةً يشارك فيها ممثلون لهم وزنهم، ومن ثمّ من حقهم أن يطلبوا ما يشاؤون كأجورٍ ماديةٍ لقاء تعبهم، إضافةً إلى كون تلك الأعمال تهدف إلى صرف المشاهد عن إعمال عقله، ومن ثم الاستخفاف به من حيث الأفكار المطروحة أو حركات الممثلين السخيفة أو الإخراج والتصوير الاعتباطيين، فتغدو كراكوزيةً مقيتةً ومرفوضة، ما يبعد الفن التمثيلي بهذه الحال عن هدفه المنوط به كانعكاسٍ للواقع ومساعدٍ على تغيير نمطية تفكير المتلقي نحو الأفضل بشكلٍ أكثر رقياً وتطوراً، بما يساهم في إعادة بناء المجتمع بشكلٍ حقيقيٍ وفعّال، ففي السَّنوات الأخيرة لم نعد نشاهد عملاً كوميدياً يليق بنا كمشاهدين، وكمواطنين لا يُسمح لأحدٍ أن يتلاعب بعقولنا أو عقول أطفالنا. من ناحيةٍ أخرى بات الإنتاج يسلِّط الضَّوء على الفئات المجتمعية الأقل عدداً وهي الطَّبقات الشَّديدة الثَّراء، والتي تختلف همومها وقضاياها عن غالبية الشعب المسحوق والذي باتت هذه الدراما تشكِّل له عبئاً إضافياً تجاه أبنائه الذين يشاهدون ويطلبون ما هو غير مقدورٍ عليه من قبل الأهل سواء مادياً أو تربوياً أو اجتماعياً.
من حقِّ كلِّ القائمين على الأعمال الدرامية أن يسعوا لتحقيق طموحاتهم وأهدافهم، إنما من حقنا كمشاهدين ألّا يتم التَّلاعب بعقولنا ولا بحياتنا ولا بقيمنا الأخلاقية والتَّربوية، بل يجب عليهم القيام بمسؤولياتهم المنوطة بهم تجاه المجتمع ككل، بشكلٍ فعالٍ وأكثر وعياً يليق بهذه المهنة الراقية، والتي ساهمت على مرِّ الزَّمن بتنمية المجتمعات والأخذ بيدها نحو التَّطور بما يُكمِّل عمل باقي الشَّرائح والمهن الأخرى التي تُشكِّل البنية التحتية لكل مجتمع.