قرارات وسياسات تغتال الدستور

إيمان أحمد ونوس:

تضمّنت مقدمة الدستور السوري ما يشي بالكثير ممّا يستحقه السوريون حقيقةً، لاسيما بعد ما عانوه ولاقوه من أهوال الحرب وفظائعها وفجائعها وتبعاتها طيلة سنوات تسع، فقد جاء فيها:

 (يأتي إنجاز هذا الدستور تتويجاً لنضال الشعب على طريق الحرية والديمقراطية وتجسيداً حقيقياً للمكتسبات واستجابة للتحولات والمتغيّرات، ودليلاً يُنظم مسيرة الدولة نحو المستقبل، وضابطاً لحركة مؤسساتها ومَصدراً لتشريعاتها، وذلك من خلال منظومة من المبادئ الأساسية تُكرّس الاستقلال والسيادة وحكم الشعب القائم على الانتخاب والتعددية السياسية والحزبية وحماية الوحدة الوطنية والتنوع الثقافي والحريات العامة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص والمواطنة وسيادة القانون، يكون فيها المجتمع والمواطن هدفاً وغاية يُكرَّس من أجلهما كلّ جهد وطني، ويُعد الحفاظ على كرامتهما مؤشراً لحضارة الوطن وهيبة الدولة).

لكن، إذا ما قرأنا بعمق ما أوردته تلك المقدمة، يتضح الفارق الكبير والهوّة الشاسعة ما بينها وبين الواقع الذي نعيش، بما يؤكّد أن كل الحكومات المُتعاقبة انتهجت وما زالت تنتهج سياسات اقتصادية واجتماعية بعيدة كل البعد عن روح الدستور وغاياته، بقدر ما هي بعيدة عن هموم الشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً واحتياجاتها، التي تتزايد يوماً بعد يوم حتى وصلت نسبة الفقر في سورية إلى مستويات تخطّت النسب العالمية بكثير، لاسيما بعد تسع سنوات من استمرار الحرب التي التهمت حقوق الإنسان كافّة مثلما التهمت كل مظاهر الحياة الكريمة لغالبية السوريين القابضين على الجمر والفقر والجوع فقط كي ينهضوا بأنفسهم وبسورية من مستنقع الحرب والفساد والمحسوبيات، لبناء وطن تُشرق فيه شمس العدالة الاجتماعية القائمة على مبدأ المواطنة وسيادة القانون تحت مظلّة دستور ساوى بين الجميع في الحقوق والواجبات من جهة، وأكّد ضرورة احترام حق المواطن في الحياة والعمل والعيش الكريم من جهة أخرى، لأن بناء الإنسان والمجتمع والدولة لا يمكن أن يقوم بعيداً عن هذه الأسس ومختلف المقوّمات التي تُعزّز ذلك سواء في الاقتصاد أو التعليم والبحث العلمي أو مختلف القرارات الواجب اتخاذها بما يتلاءم ومقدرات البلد والشعب معاً، وقد جاء في المادة 13 عدّة بنود تؤكّد على هذا بما يلي:

1- يقوم الاقتصاد الوطني على أساس تنمية النشاط الاقتصادي العام والخاص من خلال الخطط الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى زيادة الدخل الوطني وتطوير الإنتاج ورفع مستوى معيشـة الفرد وتوفير فرص العمل.

2- تهدف السياسة الاقتصادية للدولة إلى تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة.

3- تكفل الدولة حماية المنتجين والمستهلكين وترعى التجارة والاستثمار وتمنـع الاحتكار فـي مختلف المجـالات الاقتصادية وتعمل على تطوير الطاقات البشرية وتحمي قوة العمل، بما يخدم الاقتصاد الوطني.

فحين نمعن النظر في تلك البنود نجد أن السياسات الحكومية لم تحقق في عملها الحدّ الأدنى من المساواة ما بين قلّة تتحكّم بمصير ومقدرات البلاد والعباد، وبين أكثرية ساحقة تنوء بأعبائها واحتياجاتها ومتطلباتها الأساسية للبقاء على قيد كرامة وحياة، ذلك أنها ما زالت حتى اليوم تعمل بنهج الفريق الاقتصادي الذي أسّس لما عُرِف باقتصاد السوق الاجتماعي، الذي كان أحد أهم أسباب الأزمة التي عاشتها البلاد، إذ جرى ويجري تعزيز القطاع الخاص ومحاباته، رغم أنه غالباً قائم على النشاط الريعي والعقاري والاستثمار في مسائل واتجاهات بعيدة غالباً عن متطلبات الوطن والمواطن، في الوقت الذي يستمر فيه إهمال القطاع العام الاقتصادي (الزراعي والصناعي والتجاري) ما يعمل حقيقة على تدني مستوى معيشة الناس يوماً بعد آخر، بسبب سياسات وقرارات تهدف بشكل مباشر أو غير مباشر إلى دفن هذا القطاع الهامّ والحيوي والذي يضمّ في أركانه نسبة كبيرة من اليد العاملة والطبقة الوسطى (سابقاً) في المجتمع السوري، فقد سادت هذا القطاعَ المحسوبياتُ والفساد الذي جاء بقيادات وإدارات غير مُتخصّصة أساءت لمفهوم العمل ودعّمت البطالة المُقنّعة التي عملت على إهمال الإنتاج وتشويه مستواه ونوعيته، التي يُفترض أن تكون منافسة للقطاع الخاص بكل ما تتضمّنه المنافسة من زيادة وتحسين للإنتاج ورفع سوية العمل والعامل والاقتصاد الوطني معاً، قيادات وإدارات تغافلت أو قُيّدت عن وضع الخطط الاستراتيجية القريبة والبعيدة المدى من أجل رفع سوية القطاع العام وتوفير فرص العمل وزيادة الدخل الوطني الذي يرفع من مستوى معيشة المواطن، لترتفع سويّة تحصيله العلمي والأكاديمي بما يُعزز التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة التي تخدم هذا القطاع وتُقلّص من تضخّم نسب البطالة، بعد أن وصلت اليوم إلى مستويات قياسية لاسيما في صفوف الشباب بكل ما تخلّفه البطالة من مآسٍ اجتماعية وأخلاقية خلخلت معها بنية الفرد والمجتمع، فقد سادت الدعارة والسرقة والتجارة غير الشرعية والتهريب والنهب والفوضى الشاملة التي غاب معها القانون، وتُرك المواطن أعزل حتى من كرامته في سعيه الدؤوب والمستمر لتحصيل لقمة عيش لم تعد تليق حتى بالحيوانات بسبب غلاء الأسعار الذي فرضه التجّار والمحتكرون الفاسدون لكل الاحتياجات بما فيها من منتجات زراعية أو صناعية غالبيتها محلية يُفترض أن تكون أقلّ تكلفة وسعراً من المستوردة، وذلك في ظلّ رعاية رسمية من الحكومات المتعاقبة التي سنّت التشريعات والقرارات التي تخدم أولئك المحتكرين والتجّار في تناقض واضح وصريح مع الدستور لجهة دعم الزراعة والصناعة والحرف أو المهن المحلية الصغيرة، أو لجهة حماية المنتجين والمستهلكين الذين يدفعون وحدهم اليوم ضريبة الجشع والطمع والاحتكار، والجميع يعرف ما يُعانيه الفلاح في كل موسم من إهمال لمستلزمات الزراعة كافة، مترافقاً مع إهمال وضع تسعيرة تناسب التكلفة، ما يؤدي إلى إهمال الزراعة وتراكم الإنتاج في أماكن معيّنة لأن تكلفة نقله وتسويقه تفوق كلفته الحقيقية أضعافاً مضاعفة، في حين يجني السماسرة والتجّار أرباحاً خيالية لأنهم فقط يقومون بعملية النقل والتسويق والبيع نيابة عن الدولة التي تخلّت منذ زمن عن بعض مهامها الأساسية فيما يتعلّق بالتجارة الداخلية والخارجية الخاصّة بهذا الشأن، مثلما تخلّت عن حماية الفقراء من الجوع والعوز حتى وصلت نسبة الفقر في سورية إلى مستويات مرعبة التهمت في طريقها ما كان يُعرف بالطبقة الوسطى التي يُعرف عنها أنها الحامل الأساسي لارتقاء الفرد والمجتمع والدولة.     

وإذا ما رغبنا بالحديث عن الضرائب والرسوم نجد أن المادة 18 من الدستور قد نصّت على:

1- لا تُفرض الضرائب والرسوم والتكاليف العامة إلاّ بقانون.

2- يقوم النظام الضريبي على أسس عادلة، وتكون الضرائب تصاعدية بما يحقق مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية.

صحيح أن الضرائب عندنا لا تُفرض بغير قانون، ولكنها في الوقت نفسه غير عادلة ولا تُحقّق مبادئ العدالة والمساواة الاجتماعية، لأن الشرائح الأكثر فقراً من أصحاب الدخل المحدود وباقي الفئات في المجتمع هي الدافع الأكبر للضرائب والمورد الأساسي لخزينة الدولة، وهي وحدها من تُعاني منها باعتبارها ضرائب لا تتناسب مع القدرة الفعلية للدخل قياساً للضرائب المفروضة على قلّة تتحكّم بمصيرنا وتتهرّب من الضرائب، أو تُسنُّ التشريعات التي تُعفيها منها، وبالتالي نجد أن القرارات الحكومية وتشريعاتها لا تعمل حقيقة على أساس نظام ضريبي عادل يعمل على تنمية مستدامة للفئات والشرائح الدنيا من خلال رفع الضرائب والرسوم على الأكثر دخلاً وهم التجّار والسماسرة والصناعيون الكبار الذين لا همّ لهم سوى التهرّب من الضرائب والرسوم عبر تقديم لوائح وجداول وهمية بإنتاجهم وأرباحهم، وهم بالأساس خارج قبضة النظام الضريبي، بينما أصحاب الدخل المحدود ومن يوازيهم من شرائح أخرى في المجتمع وحدهم القابعون في قبضة الحكومة وتشريعاتها الضريبية غير العادلة، ولنا في مختلف الضرائب والرسوم التي يعرفها ويعاني منها الجميع خير مثال، وكذلك المثال الأكبر اليوم وسورية تواجه كغيرها من دول العالم أشنع وباء عالمي اسمه (كورونا) نجد أن العديد من الإجراءات الوقائية أو العلاجية التي اتخذتها الحكومة قد صبّت في الاتجاه السليم، غير أن هناك قرارات جاءت مخالفة لما نصّت عليه المادة 22 من الدستور:  

1- تكفل الدولة كل مواطن وأسرته في حالات الطوارئ والمرض والعجز واليُتم والشيخوخة.

2- تحمي الدولة صحة المواطنين وتوفر لهم وسائل الوقاية والمعالجة والتداوي.

كما نصّت المادة 40 من الدستور في الفقرة الثالثة منها على: تكفل الدولة الضمان الاجتماعي والصحي للعمال.

نعم، لقد كفلت الدولة الجميع من حيث الوقاية أو العلاج من الإصابة بهذا الفيروس، لكنها في الوقت ذاته اتخذت إجراءات احترازية اقتضت التوقّف عن العمل لكثير من القطّاعات الأخرى التي تعمل في الظلّ والتي تفتقر لمظلّة التأمين والصحة والعلاج وما شابه، دون أن تتخذ إجراءات إسعافية مالية تحمي أولئك العاملين من المرض الذي يفرضه الجوع والغلاء لأسعار المواد الغذائية والصحية والعلاجية الضرورية لمواجهة هذا الوباء، بسبب تعطّلهم عن العمل وانعدام الدخل المطلوب لمختلف الاحتياجات الأساسية والضرورية التي تُحلّق أسعارها يوماً بعد آخر من قبل سماسرة وتُجّار لا يحترمون إنسانية البشر ووجعهم، ما يجعل الناس يشعرون بالظلم وعدم المساواة والعدالة والحماية من قبل الحكومة التي عليها العمل حقيقة على تأمين مستلزماتهم اليومية الضرورية من صندوق المعونة الاجتماعية في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لبقائهم على قيد عافية وإنسانية.

إن مجمل الوضع المعيشي الصعب والذي ألقى بكل ثقله على غالبية الناس، إضافة إلى العديد من القرارات والإجراءات الحكومية التي عزّزت هذا الوضع، سواء بما يخص العمل أو تأمين الاحتياجات الأساسية خاصّة في ظلّ نظام البطاقة الذكية التي زادت من المعاناة للحصول عليها، أثار موجة استياء مجتمعية غير مسبوقة حتى في أحلك أيام الحرب فظاعة وقسوة!

فهلّا عادت حكوماتنا الموقّرة إلى موقعها الأساسي ومهامها المنوطة بها والمفروضة بقوة الدستور، كي نبقى وطناً ومواطنين على قيد إنسانية وكرامة تليق بسورية وشعبها؟

العدد 1104 - 24/4/2024