غمامة الرجعية السوداء المطبقة على عالمنا
بولس سركو:
تقدمت البشرية بطرق وعرة دامية في محاولاتها للتخلص من الظلم والعبودية والاستغلال والتفاوت الطبقي، ولإرساء المبادئ الأساسية للحقوق والعدالة الاجتماعية ، ولا نعرف بالضبط كم مليوناً من البشر قد سقطوا على تلك الطرق من أجل إلغاء الامتيازات وتحقيق المساواة والتوزيع العادل للثروة ، يقدر البعض عدد ضحايا الثورة الفرنسية وحدها بمليوني قتيل، وعدد ضحايا الثورة الاشتراكية في روسيا بسبعة إلى ثمانية ملايين قتيل، لم يسقطوا جميعاً بالرصاص الطائش بل أغلبهم ضحوا بأنفسهم من أجل تقدم المجتمع الإنساني، وبفضل تضحياتهم ارتقت العلاقات والمفاهيم وتعرفت الإنسانية على النظام الجمهوري العلماني وعلى دولة العمال والفلاحين الاشتراكية، وعلى الأمم المتحدة وحقوق الإنسان والقانون الدولي، وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
لقد شكل المعسكر الاشتراكي ثلث الإنسانية، وبغض النظر عما ارتكب من أخطاء لأنه بحث آخر، ولكنه خلق مناخاً عالمياً نهضوياً معرفياً غير مسبوق على مستوى التطور ونمو الوعي الطبقي والوطني للشعوب المضطهدة، فانتشرت على أثر ذلك حركات التحرر الوطني، وراحت منظومة الاستعمار القديم تتداعى وتتفكك أمام المد التقدمي الجارف، ولو استمر ذلك المد صعوداً لكان مصير أصحاب الثروة والنفوذ والسلطة الذين يحكمون ويتحكمون بعالم اليوم في مهب الريح وهم يعرفون ذلك، وتحاشوه بتنظيم هجومهم المضاد بكل الوسائل، ومن أكثرها خبثاً الأساليب الناعمة التي تقوم على الغش المعرفي والتلاعب وتشويش وعي الشعوب وتضليلها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
خمسة وسبعون عاماً والولايات المتحدة الأمريكية ترعى جميع الأنشطة الثقافية التدميرية والكارثية التي تعود بالمعارف إلى ما قبل عصر الأنوار، من لاهوت مثالي غيبي وميتافيزيقيا، وتوظيف للفكر والأدب والفن والإعلام لخدمة مشروعها لنخر الدول من داخلها والسيطرة على الأسواق العالمية ، 75 عاماً وهي تقود الناس إلى البربرية التي نعيش فصولها يوماً بيوم تحت غمامة الرجعية السوداء المطبقة على عالمنا، وهذا ليس اتهاماً تعبوياً، بل مهمة من مهام مجتمع الاستخبارات الأمريكية الذي يضم حوالي 854 ألف فرد، دون حساب عدد المخبرين، ويمتلك ميزانية تزيد على 81 مليار دولار حسب إحصاء عام 2018 ويضم 16 وكالة استخبارية و 1271 منظمة حكومية و1931 شركة خاصة، وتتلخص مهامه في الحفاظ على النظام السياسي الأمريكي والأنظمة الموالية له وقمع انتفاضات الشعوب المقهورة، وتأمين المصالح الاقتصادية الأمريكية وتدمير الدول المعارضة لسياساتها ومحاربة المجموعات السياسية المناهضة لها.
من هذا المجتمع الضخم تتخرج كوادر مدربة ومتخصصة بأحدث وسائل التأثير التكنولوجية ويجند مئات آلاف العملاء، وفيه كل المعلومات عن كل دول العالم بما في ذلك عاداتها وتقاليدها ونسب وعي شعوبها ونقاط الضعف والقوة والطبيعة العقلانية أو العاطفية لمواطنيها، وفيه تصاغ كل المشاريع وخطط السيطرة على العالم وتحدد الخيارات الملائمة لها بين الأذرع العسكرية أو الاقتصادية أو الفكرية أو الإعلامية، وربما بالتعاون بين بعض منها أو بمجموعها معاً.
ذراع الفكر كانت الأخبث بين تلك الأذرع وربما الأكثر تأثيراً وفعالية، فسقوط الكتلة الشيوعية كان بفعل الاحتواء الثقافي والقوة الناعمة بالدرجة الأولى التي اعتمدت على الاختراق الاعلامي لوعي شعوبها، وبسقوطها صدمت وفقدت سندها كل حركات التحرر الوطني والقوى التقدمية في عالم باتت أبوابه مشرعة للتدخل الأمريكي بلا عوائق وبدأت تتعالى أصوات الأطر الرجعية وينتعش التطرف الديني والعرقي والعنصرية وتعود عجلة التاريخ الى الوراء.
قبل تسعة عشر عاماً شنت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها عدواناً على أفغانستان بعنوان (الحرية الدائمة) ضد المتطرفين الإسلاميين الذين شكلتهم بنفسها سابقاً، لمقاومة الوجود السوفييتي، وتوقفت العمليات القتالية عام 2014 لكن القوات الأمريكية ما تزال هناك حتى اليوم وما يزال يتساقط آلاف المدنيين ووفق تقرير للأمم المتحدة ففي عام 2018 وحده سقط 3800 مدني وجرح 7000 آخرين ، ولم يمضِ عامان على اختلاق الكارثة الأفغانية حتى قامت القوات الأمريكية وقوات الناتو بغزو العراق في عملية بعنوان (حرية العراق) التي أدت لسقوط بغداد بعد شهر من بدايتها وإعلان الرئيس الأمريكي بوش انتهاء العمليات العسكرية أيضاً وبقيت القوات هناك إلى يومنا لاستكمال مهمة تدمير العراق وتقسيمه عن طريق العصابات الجهادية المذهبية المتزمتة التي قامت المخابرات المركزية بتشكيلها للحفاظ على استعار نار الفتنة وحصد أرواح الآلاف من المدنيين.
هزيمة الكيان الصهيوني العسكرية أمام حزب الله اللبناني في حرب 2006 فرضت على واشنطن العودة لمد الذراع الفكرية لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد عن طريق الفوضى الخلاقة، ومدخلها كان التصعيد المذهبي عبر الإعلام (أمريكا تتحكم ب 65% من المادة الإعلامية في العالم) لاستمالة أكبر عدد من متطوعي الفتنة والقتلة المغفلين. لقد بدأ التخطيط لاستهداف سورية وإخضاعها في أروقة الاستخبارات الأمريكية منذ عام 2004 بإعداد كل الأذرع بدءا من الذراع الفكرية لضمان تصديع بنية الدولة من داخلها، ثم مد باقي الأذرع تباعاً، وهو ما حصل فقد اختير للعدوان على سورية اسم (ثورة الحرية والكرامة) كخيار مدروس يخفي المتحكم الأمريكي الفعلي بحركة الشارع وأهدافه العدوانية الحقيقية ويوسع رقعة التذمر الشعبي للحفاظ على الزخم (الثوري ) والتوتير غير العقلاني، لذلك فإن جميع من بحت حناجرهم من ترديد ذلك الشعار عام 2011 لم يكونوا مقتنعين بوجود دور خفي لواشنطن في مجريات الحدث السوري، وكانت وسائل الاتصال والفضائيات والمثقفون الأتباع والناشطون المدربون ومسؤولو التنسيقيات يسخرون جميعاً ممن كان يلمح مجرد تلميح إلى ذلك الدور، لكن الواقع كان مختلفاً تماماً، كانت كل الأذرع محضرة مسبقاً في حال فشل أحدها، فسرعان ما بدأ الملثمون باستفزاز القوى الأمنية، والجهاد يجتذب مئات آلاف الإرهابيين المرتزقة من كل أصقاع الأرض ليكبح صوت الرصاص الشعارات السلمية ويكشف زيفها.
دمروا البنية التحتية، قطعوا الرؤوس، خطفوا النساء والأطفال، شهد العالم أكبر هجرة في التاريخ الحديث، مزقوا البلاد اجتماعياً وجغرافياً ونهبت ثرواتها وانهار اقتصادها، وساد الرعب والخوف والقلق والحزن، وثوب الحداد عم المدن والبلدات والقرى، وحين فشل كل ذلك في إخضاع سورية، بدأت الذراع العسكرية والاقتصادية تمتد لتضرب وتحاصر وتخنق وتبدد أي أمل بوقف هذه الكارثة الإنسانية المتفاقمة، الاحتلال الصهيوني من الجنوب والتركي والأمريكي من الشمال وما زال يتساقط الشهداء وقد دخلنا العام العاشر للعدوان وما زال هناك – مع الأسف – من يعتقد واهماً أن الولايات المتحدة الأمريكية التي اختلقت بؤراً لصراع الثقافات الدموي في كل أنحاء العالم وأرجعت كل شعوبه قروناً إلى الوراء يمكن أن تمنح الشعب السوري الحرية والكرامة.