نزيف في المعدة

غزل حسين المصطفى:

نزيف في المعدة!
ليست جملة اعتراضية في تشخيص طبيب، هذه الجملة كلّفتنا ثلاثة أشهر من اللاحياة ونحن نُراقب وجه والدي يَغبرُ وينطفئ نوره، نحول فجائي في وزنه وجسده عموماً، فاقداً للذّة الطعام وهناء النّوم دون ألم.
_نعم، ثلاثة أشهر!
ونحن نخضع لرحمة التّجربة، من طبيب داخلية إلى آخرٍ هضميّة، ونعود إلى طبيب القلبيّة ليعطي تأشيرة الموافقة على الدواء، تضمّنت هذه الجولة زياراتٍ متكررة للمشفى وقائمة طويلةٌ جداً من التّحاليل.
كلُّ هذا ومجلّد حالته يكبر، وكيسُ الدواء يتضاعف حجمه، ووالدي وحده من تتوه صحته على أسلاك جهاز القلب وأنبوبة التّنفس.
_ثلاثة أشهر متواصلة أو ربما تزيد، لم نكن ندرك ليلنا من نهارنا، ولا أودّ العودة إلى ذلك التّاريخ لأحسب، كلّ ما أعرفه الآن أنّنا أعلنّا الليالي الملاح وقرعنا طبول الأفراح حين دقّق طبيبٌ بأرقام الخضاب المتبدلة بين كلِّ تحليلٍ وآخر، وصرخ:
(-كيف كانوا يسمحون لك بالخروج من المشفى دون ألف استفهام حول هذا التّفاوت الملحوظ!؟

-أنطلب التّحاليل ولا نقرأ نتائجها!؟
-أعتذر لك عن كلِّ من مرّ بحالك ولم يستطع أن يُنجيك من ألم يفتك بأحشائك!).
وأضاف: ( بصرف النظر عن مواضيع القلبيّة وملحقاتها، لكنّ شكواك والتحاليل تُفسَّر عندي بنزيفٍ في المعدة!).
كان هذا بالنسبة لنا، وبعد هذه التّجربة، كفيلاً بأن نُشكّك بكلٍ طبيب.
كان هذا كفيلاً بأن أفتح باب الاستماع للتجارب الإنسانية في أروقة المشافي، وأضع علاماتٍ سوداء في سجل الطّب في بلادي، في حين كان عمي من بلادٍ أجنبيةٍ بعيدة يقرأ علينا التدابير الّتي قد تُتخذ في مثل حالة والدي، يُحدثنا طويلاً عن قداسة الصحة وأهمية الإنسان، يفتح دفاتر ذاكرته السّتينية ويعقد جلسة مقارنة تملأ الروح بمرّها:

عقامة، ترتيب، انتظام، نظم صحية مؤتمتة، أجهزة متطورة، وتغييرٌ يُحدث بكبسة زرّ.
قد يعتبر البعض كلامي إجحافاً وإنكاراً للقامات الطّبيّة، بل قد يعدّه آخرون ضرباً من ضروب الخيانة، قد يكون ذلك صحيحاً لما ظهر من حديثي، لكنّني أدرك تماماً في وعيي أن الموضوع لا يقبل التعميم أبداً ولا يستحق أن أعيش في حالة هلع مستمرة، وأن التجارب السّلبية قابلة لأن تكون في كلّ مكان والخطأ وارد، إنما المشكلة أن المعني بالقصة هو (والدي).


مما سبق يدور في رأسي السؤال ونحن اليوم نشهد الحدث الأضخم طبياً، ووباء(كورونا) يجتاح العالم: إلى أيّ حدٍّ سيكون الخطأ مغفوراً؟!

بعد حربنا الطويلة والظروف غير الصّحية التي تفتك بأجسادنا انطلاقاً من العادات الغذائية السيئة وصولاً إلى الغذاء غير المتكامل وهشاشة ممتلكاتنا الطبية على اختلافها (خبرات، أجهزة، …) أين سنكون على خارطة الحدث؟ وقبل أن تتكاثف الأسئلة وتودي بي إلى متاهةٍ عظمى، سأقف بنقطة آخر السطر ولا أتكهن بمجهول قد لا يحصل، ومن غير المقبول الحديث عن حالة مثالية ونحن في شروط تتخطى الاستثناء، وإنما المسموح الآن فقط هو أن ننحني إجلالاً لأولئك الذي هرعوا بكل صدق إلى الميدان مُؤمنين بما أقسموا والإنسان نُصب أعينهم وضمائرهم، وعلى هذا المحك فقط ستتعرّى الزّخارف وندرك بأنفسنا قوة أيّ جهازٍ طبي ومدى جاهزية الدول للوقوف على قدمٍ واحدة لأجل مواطنيها، على الرغم من أن الموضوع لا يقف عند ذلك، بل يحتاج للرهان أيضاً على ثقافة الشّعب ووعيه والتزامه.
لكن لا بدّ من أن نتحدث عن نقطةٍ جوهريةٍ إن من سيدّعي قلّة المعرفة بما يحيط بنا سيكون كاذباً، إذ إن الطواقم الطبية والأجهزة الإعلامية عالمياً كُرّست لنقل الحدث، وبثّ الحقيقة وإعطاء المعلومة من مصادرها الموثوقة، فلم يقف موضوع الثقافة الطبية والوعي الحقيقي عند أولئك الذين يهتدون بسراج منظمة الصحة العالمية، وهنا لا نُقلّل من أهميتها في الميدان بل نُشيد بمن كانوا لها الصدى.
من هنا من بين حروفي التي أخاطبكم بها، أخاطب مشاعركم وقلوبكم، أبوح لكم بتفاصيل حياتي ونقيس عليها ما يجري، كلّ هذا لنصب في مكان معين، ألا وهو الحرب التي نخوضها لأجل صحتنا ولأجل البقاء، نتفق على أن القبعة سترفع لجميع من ساهم وسيساهم في نجاتنا ممّا يتربّص بنا من بلاء ووباء، وسيبقى لأفراد الكوادر الطبية المنّة الكبرى.

العدد 1104 - 24/4/2024