صحتنا رهينة السياسات المحلية والعالمية

إيمان أحمد ونوس:

تُعتبر الصحة العامة (الجسدية والنفسية) للفرد مؤشّراً هاماً على مدى حيويته ونشاطه، مثلما تُعتبر مقياساً أساسياً لعمره الزمني وفاعليته في الحياة. فالصحة الإيجابية للإنسان ترفع من مستوى إنتاجيته في الأسرة والمجتمع والدولة على حدٍّ سواء. ومن هذا المنطلق كانت الصحة من المسائل الأساسية التي شغلت اهتمام الزعماء والدبلوماسيين عند تأسيس الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بسبب ما خلّفته من أمراض وأوبئة عرقلت التنمية البشرية والاقتصادية للدول، فكان تأسيس منظمة الصحة العالمية في السابع من نيسان عام 1948 الذي اعتُبر فيما بعد يوماً عالمياً للصحة، يهدف لتوفير أفضل ما يمكن من الحالة الصحية الجيدة لجميع الشعوب على اعتبار أنها جزء أساسي من التنمية البشرية المتطورة. وقام دستور تلك المنظمة على ضرورة اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً وتوفير الرفاه الاجتماعي، ومساعدة الأمهات والأطفال في البقاء على قيد الحياة والتمتّع بالرخاء كي يتسنى لهم التمتّع بالصحة في مرحلة الشيخوخة والعجز.

باتت المسألة الصحية في القرن الحادي والعشرين، مسألة حيوية ومسؤولية دولية مشتركة تنطوي على ضمان المساواة للحصول على خدمات الرعاية الأساسية من خلال الاتفاقيات الدولية في شؤون الصحة العالمية، إضافة إلى تبادل الخبرات ومحاولات الحدّ من التلوّث الذي يؤثّر بشكل مباشر على غذاء الأفراد وصحّتهم، وأيضاً القضاء على العديد من الأمراض المُزمنة والفتّاكة والوقوف بشكل جماعي لمواجهتها كما هو حاصل اليوم في مواجهة فيروس (كورونا).

إن كل ما تقدّم أعلاه ما زال مجرّد أضغاث أحلام لا قيمة لها، أبقت على كل العهود والاتفاقيات الدولية ذات الصلة خاوية من أيّ أثر أو فاعلية تُذكر أمام جشع الإنسان بشكل عام، وفظاعة سياسات الدول الصناعية بشكل خاص، ما أدّى إلى خلخلة توازن الأرض وشعوبها قاطبة، بسبب تلوّث الماء والهواء والتربة نتيجة السياسات الصناعية التي لا يهمّها سوى المزيد من الانتاج والربح، ما أدّى ويؤدّي إلى ظهور العديد من الأمراض والأوبئة التي تحصد سنوياً آلاف الأرواح من البشر لاسيما فقرائهم الذين لا حول لهم ولا قوة في دول غالبيتها لا تقيم وزناً لا للإنسان ولا للصحة العامة بسبب السياسات الحكومية القائمة على الإهمال من جهة، وعلى الارتجال أثناء وضع الخطط والمشاريع الصناعية والسكنية التي تفتقد لأدنى شروط السلامة والصحة من جهة أخرى، فانتشار السكن العشوائي الذي يفتقر إلى مختلف الخدمات الضرورية من صرف صحي وتهوية وإضاءة، إضافة إلى قيام العديد من المنشآت الصناعية أو الورش الصغيرة أو وجود بعض المستشفيات ضمن التجمعات السكنية أو بالقرب منها، كله يؤدي إلى الاعتداء على الصحة العامة وانتشار مختلف الأمراض. كما أن الأفراد الذين لا يمتلكون ثقافة صحية إيجابية يُعزّزون هذا الواقع المتخلّف بمسلكياتهم البعيدة عن مراعاة قواعد الصحة العامة في النظافة لاسيما في الماء والغذاء، وكذلك ضرورة الاهتمام بالصحة الإنجابية التي تتطلّب المباعدة بين حمل وآخر، وتقليص عدد الولادات ليتسنى لهم الاهتمام بصحة النساء والأطفال من أجل تخفيض نسب الوفيات بينهم.

وعلى الصعيد العالمي نجد أن سياسات الدول الصناعية القائمة على نهج خالف كل الأعراف والاتفاقات الدولية المُتعلّقة بالمناخ أو التلوّث أو، أو، أو…الخ في خرق خطير لكل ما يتعلّق بالصحة العامة للبشر والأرض معاً، فقد أثّرت صناعاتها الثقيلة والعسكرية والتكنولوجية على الغلاف الجوي ما أدى إلى احتباس حراري ساهم باتساع ثقب الأوزون إضافة إلى ذوبان الجبال الجليدية وتقليص مساحتها في القطبين معاً. وكذلك تلوّث الهواء والماء والتربة الذي ساهم في انجرافها وزيادة مساحات التصحّر في بعض مناطق العالم ما أثّر بشكل أو بآخر وعمل على تزايد ثاني أكسيد الكربون الضّار بالإنسان وباقي الكائنات الحيّة على سطح الأرض. ولا يفوتنا بالتأكيد أن لاستخراج الثروات الباطنية من نفط وغاز ووو…الخ آثاراً سلبية على الصحة العامة تفوق أحياناً نتائجها الإيجابية من توفير لمستلزمات الطاقة والصناعة ومختلف الأنشطة البشرية بسبب عدم تقيّد الشركات بأدنى شروط الصحة العامة للشعوب قاطبة.   

بالتأكيد، إن لمنظمة الصحة العالمية دوراً أساسياً وبارزاً في حياة البشرية من خلال تعاملها مع مختلف القضايا التي تطرقنا إليها، لكنها للأسف محكومة في جانب كبير من أنشطتها برغبات وسياسات الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية فقط لأنها المساهم الأكبر في تمويل المنظمة المرهونة حقيقة لتلك السياسات، وهذا ما ظهر جليّاً حين خرجت أمريكا من اتفاقية المناخ مثلاً، وها هي اليوم تُهدد بانسحابها من منظمة الصحة العالمية لتقاعس المنظمة عن مساعدتها في مواجهة (كورونا) حسب زعمها. إضافة إلى الكثير من المسائل التي تحاول تلك الدول التملّص منها فيما يخص البيئة والصحة العامة للبشرية، فقط لأن أهدافها ومساعيها وسياساتها تعرقل وتُعيق السياسات الصناعية الساعية إلى السيطرة على الدول والشعوب الفقيرة. كل هذا له من الآثار السلبية المرعبة على صحة وسلامة الأرض والإنسان معاً، ممّا يُبقي على الصحة العامة للبشرية جمعاء رهينة السياسات المحلية والعالمية.  

العدد 1104 - 24/4/2024