المستقبل من منظور (الديمقراطية الاجتماعية) (1)

صفوان داؤد:

إن ما حصل في الشهرين الماضيين وما يحصل الآن من تداعيات انتشار فيروس كورونا، قد دفع إلى السطح العديد من التساؤلات الجوهرية حول كيف تُقاد المجتمعات على مستوى العالم. ولو تتبُّعنا ردّ الفعل العام في عدد من دول العالم لوجدنا ميلاً قوياً عند بعضها لتقديم المصلحة الاقتصادية على حياة الإنسان، نتيجةً لذلك نطرح سؤالاً جوهرياً، وبعيداً عن الجانب الصحي وكيفية العلاج والسيطرة على جائحة كورونا، سؤال عن جودة ونجاعة الآليات المؤسساتية الليبرالية السائدة حالياً، ومدى قدرتها على ضبط الأزمات الكبرى التي يمكن أن تصيبب المجتمعات، والتي ربما تكون مستقبلاً أزمات أقسى من جائحة كورونا الحالية.

أولى الملاحظات التي يمكن أن نشير إليها هي الفرق بين تعامل الصين وتعامل الغرب مع تداعيات هذا الفيروس، إذ رأينا أن القيادات الغربية كانت تنظر بعين العداء والفوقية تجاه الصين، وأنها خلال تفشي المرض قد بدأت تعدل من لهجتها وتنظر باستحسان إلى سياسات الصين في تعاملها مع هذا الوباء. أكثر من ذلك وفي الوقت الذي طلبت فيه إيطاليا من الاتحاد الأوربي المساعدة العاجلة، تقاعس هذا الأخير وأغلق حدوده، ولم تلبِّ النداء سوى الصين، وكان من السخرية السوداء أن تمنع دول لها وزنها وقيمتها الحضارية مثل فرنسا وهولندا توريد الكمامات الطبية إلى الشمال الإيطالي، بؤرة تفشي المرض!

 وفي الوقت الذي جاءت الكوادر الطبية إلى هذا البلد المنكوب من روسيا وكوبا، لم نجد أيّ خبير أو اختصاصي من الولايات المتحدة قد قدم شيئاً في المحنة الإيطالية. رغم ذلك، لم يعكس أداء الحكومات الليبرالية الأوربية حقيقة أن المجتمعات الغربية ونخبها هي على درجة من الوعي تستطيع من خلاله تمييز مصالحها وحقوقها الأساسية، وأن نظرتها إلى أداء الصين لم يأتِ فجأة، إنما عن تراكم في إدراكها بأزمة الرأسمالية المستعصية وافتقارها للحلول.

 لقد سلّطتْ جائحة كورونا الضوء على الجوانب القبيحة من النظام الرأسمالي، ابتداءً من سلاسل التوريد العالمية وليس انتهاءً بالقوانين والتشريعات الليبرالية المناهضة للحمائية.

من المعروف أن انتشار الرأسمالية عقب الثورة الصناعية في أوربا قد أدى إلى نمو اقتصادي وابتكار غير مسبوق، لكنه ترافق أيضاً مع لامساواة هائلة، وقد بَرَزَ الاشتراكيون الأوائل أمثال سان سيمون وشارل فورييه وروبرت أوين، أو من عُرفوا بالاشتراكيين الطوباويين، في مقدمة من انتقد الرأسمالية، ثم قام لاحقاً كارل ماركس بمنهجة النقد والتحليل والاستشراف لمصير الرأسمالية، وبقي حتى وفاته مؤمناً بشكل مطلق بحتمية انهيارها.

 الآن لا يمكن أن نجادل بالطبيعة اللامساواتية المتأصلة للرأسمالية، كذلك بحقيقة التناقضات الكامنة داخل بنيتها لتي أصبحت أكثر وضوحاً منذ أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة عام ٢٠٠٨، لكن النظام الرأسمالي في الاقتصادات ما بعد الصناعية لم ولن ينهار، هذا كان رأي مفكري وناشطي إحدى المدارس ذات النزعة الاشتراكية والذين يتبنون حالياً نهج (الديمقراطية الاجتماعية)،  وهم يعتقدون أنه بدلاً من محاولة إسقاط الرأسمالية بالقوة على طريقة المبادئ الشيوعية، أو تفكيكها عبر اللامركزية بحسب فلسفة الاشتراكية الليبرتارية (التحررية)، أو التعامل معها من داخل الرأسمالية نفسها كأمر واقع كما يرى الاشتراكيون الديمقراطيون من الطراز الاسكندنافي، فإنه برأيهم – أي الديمقراطيون الاجتماعيون- يمكن استخدام جهاز الدولة المؤسساتي للإصلاح،  وتسخير فضائل الرأسمالية في عملية الإنتاج والابتكار وبشكل متوازٍ مع تحقيق المساواة والعدالة للبشر، عن طريق تنظيم الأسواق وتطوير وقوننة السياسات الاجتماعية، وحماية النظام الاجتماعي من تقلبات السوق العالمي.

 لقد أثبتت جائحة كورونا أن تداعيات الجمود في الاقتصاد العالمي يمكن أن يكون أشد خطراً من الحروب على شعوب العالم، ولابد من التفكير جدياً بإعادة إحياء البرامج الوطنية ووضع قيود أكثر صرامة على الحدود المفتوحة للعولمة. ومنذ الآن بدأت ارتدادات صدمة كورونا تنعكس على المؤشرات الاجتماعية، وانخفاض كبير في شعبية كلٍّ من الحركات الشعبوية والليبرالية.

ووجدنا هذه الأخيرة وقد ناقضت معاييرها ومبادئها بشكل صارخ وفرضت قيوداً على التنقل، وأغلقت الدول الأوربية عرين الليبرالية، الحدود بوجه القادمين من جيرانها أو حلفائها.

كما سقطت الحركات الشعبية أيضاً في فخ تناقضات الرأسمالية، ووقف ماثيو سالفيني (زعيم الائتلاف القومي اليميني المتطرف، الحاكم لولاية لومباردي بؤرة تفشي كورونا في إيطاليا) عاجزاً أمام هول الجائحة.

 وقريباً سنشهد، على حساب التيارات الليبرالية والشعبوية على حد سواء، انتعاشاً جديداً للنظرية الاشتراكية، مع تحولات واضحة في البنية الفكرية داخلها لصالح اعتماد مبادئ الديمقراطية الاجتماعية.

 وتشير الأستاذة شيري بيرمان مؤلفة كتاب (الديمقراطية الاجتماعية وصنع القرن العشرين لأوربا) إلى أن الاشتراكية بشقها الديمقراطي الاجتماعي تشهد انبعاثاً جديداً على حساب سياسات ومبادئ الاشتراكية الديمقراطية والرأسمالية على حد سواء. وتكشف استطلاعات الرأي عن ازدياد شعبية (الديمقراطيون الاجتماعيون) في الولايات المتحدة، وخاصة بين الشباب، وتقول بيرمان أن (السياسيين المشهورين، مثل بيرني ساندرز وألكساندر كورتيز، يتحدثون الآن بفخر على أنهم اشتراكيون. ولا يبدو أن الصحافة والمثقفين العامين في الولايات المتحدة يتوقفون عن الحديث عن الاشتراكية).

إن عودة الحديث والعمل على تطبيق الاشتراكية في الولايات المتحدة والغرب لا يعود إلى المخيال الشعبي العام لمفهوم الاشتراكية، بقدر أن السبب هو في الرأسمالية نفسها، والتداعيات السلبية التي سببتها على المجتمعات الغربية، من حيث التفاوت في الدخل وتباطؤ النمو وعدم المساواة، وزيادة نسبة القلق العام لدى الطبقة الوسطى وجعلهم أقل يقيناً بشأن مستقبلهم ومستقبل أولادهم.

(يتبع)

العدد 1104 - 24/4/2024