إلى لقاءٍ آخر كورونا

غزل حسين المصطفى :

الطبق المفضل الذي نُجمع عليه نحن الأفراد الخمسة في عائلتي كان ماثلاً أمامنا لا ينقصه إلا أن تكون قد خالطته النار قليلاً ليكون دافئاً لذيذاً وشهياً، لم نستطع إلا أن ننظر إليه دون أن ننبس بحرفٍ واحدٍ، خانتنا أسطوانة الغاز في ذلك الصباح لتلفظ أنفاسها الأخيرة ودورنا في استلام أخرى مازال بعيداً، وليكمل البؤس لوحته في ذلك اليوم لم ينتظم وصول التيار الكهربائي، وبقينا نرقب لحظة الوصل لنأكل أو نشرب كاساً من الشاي السّاخن مستخدمين السّخان الكهربائي ونحن ضمن الحجر المنزليّ الاختياري وتطبيقاً للإجراءات الاحترازية للحد من انتشار فيروس (كورونا المستجد).

_كثيرةٌ هي مواقف الحرب التي جعلت والدي يُقاوم كلّ شيء لأجلنا وبصمتٍ مطبق، يحمل الهم ويترك لنا ابتسامةً عريضةً على شفتيه تُطمئن قلوبنا، وجملة: (المهم تكونوا مبسوطين!) إلا في ذلك اليوم البائس، إذ ابتعد عن طاولة الطعام، أشعل سيجارته وقال: (سنوات حربٍ طويلةٍ وقاسيةٍ مرّت كنت على استعدادٍ حقيقيٍ في أن أطحن عظامي لأجلكم، لأجل ألا تجوعوا وألا تشعروا بالبرد، سنواتٌ طويلةٌ كنت أسدل كلّ الستائر أمام نواظركم عن كلّ قبيحٍ يأكل جسدي، حتّى المرض قاومته لأجلكم، لأني ربُّ أسرة وأنتم أمانتي، ولكن اعذروني! ما حصل اليوم خارج عن إرادتي)!

_نعم، أيها السادة، إنه زمن الكورونا، لن أخوض في الإجراءات المُتخذة من قبل الحكومة، وإنما سأخوض فيما يعيشه حقيقةً المواطن السّوري في ظل هذه الإجراءات.

_أبشّركم في البداية أننا حصلنا على أسطوانةِ غازٍ في اليوم التالي بعيداً عن (البطاقة الذّكية) وبسعر ١٧ ألف ليرة سورية.
يخرج والدي في كلِّ صباحاً ليسجل لنا دوراً في استلام (ربطة خبر) ويعاود بعد ساعات قليلة الخروج ليستلم حصتنا التي قد سجلنا عليها مُسبقاً، هناك عند المعتمد الذي اختارته الدولة كحلٍّ بديلٍ عن التجمعات الكبيرة أمام الأفران، فتتحول التجمعات إلى شباك المُعتمد.
هناك حيث يفترش فلان الأرض ويوزّع الأرغفة على الرّصيف حتّى تبرد ويضعها فيما بعد في الكيس، يُسلّم على جاره مُصافحاً ويقول: (الحامي الله، ما متنا بقذيفة بدو يقتلنا كورونا كورينا يلي هوّ!).

_هذا الشعب الذي لن أقول ارتفعت عنده عتبة الألم وعتبة الخوف، نحن فقدنا الشعور ربما بالمسؤولية تجاه أرواحنا
_هذا الشعب الذي قد يحمل بعضه ثقافة صحية يحاول نشرها بشكلٍ سليمٍ فيما يتعلق بالفيروس المُتفشي، لكنَّ القسم الآخر لا يصدق لا يرتدع.

_هذا الشعب الذي خرج أفراده بعد إعلان أولى الإجراءات إلى الأسواق وبدأت عملية جمع المونة وكأننا مقبلون على حربٍ ضروسٍ أو قد كُنّا في مجاعةٍ فتكت بالجميع، ولا داعي لأنقل لكم صورة الأسعار المُحلقة في السماء، والاحتكار الذي اعتدنا عليه، لا داعي لأن أقول لكم إن المسؤولين أوجعوا مسامعنا بخطاباتهم حول المتابعة والمراقبة.

_لكن في ظل كلّ شيء هل يكفي أن نجعل الحكومة شمّاعة، وننسى أن ضمائر البعض قد فُقدت والنفوس النهمة لا تشبع، وبعضهم لا يدرك حجم الكارثة التي تنتظرنا إن لم ننجُ!
_أيّ إجراءات وأيّ تدابير!؟
_أيّ قوانين وأيّ مراقبة!?

_نحن نشمّ رائحة الهلاك تفوح في الجوار ولا نرتدع.
_نحن من نرى العجب العجاب ولا نصدق فلم نلحظ هذا بأم العين، مازلنا نصافح ونخرج دون أيّ وسيلة تعقيم، فنحن لم نفارق الحياة بعد، عن أيّ فيروس يتحدثون!؟
_نحن من ننتظر أن يصفعنا الموت حقاً لنرتدع.
_نحن الشّعب الذي فقد الكثيرون من العمال المُياومين مردودهم وبات الجوع يغزوهم، يقتلهم قبل الفيروس وشعوبٌ أخرى تُصرف لهم رواتب استثنائية.
_نحن الشّعب الذي يُضحي طاقمه الطّبي ويلتزم بقسمه وهو على خط التّماس الأول ولم تُفكر الحكومة في أن تصرف لهم على الأقل مبالغ رمزية شكراً وتحفيزاً لما يفعلون!
_نحن الشّعب الّذي يعيش في بلد الأزمات (أزمة خبز، كهرباء، ماء، غلاء)
_يدور في ذهني سؤالٌ قد يكون هزلياً بعض الشيء، خلال الحرب الطّويلة الّتي اعتصرتنا، أو في أيّ حرب تدور، لماذا لم تحصل أزمة سلاح!؟
نؤمن ببساطة وسيلة الموت ونموت لنؤمن قشةً صغيرةً تُنجينا وتعطينا رشفةً من حياة.

_في جعبتي الكثير الكثير من الكلام ومن العتب واللوم ولكن ماذا أقول؟! _ما نفع الكلام المكتوب على ورق؟
من منبري هذا بوصفي صحفية لن تكون مقالتي هذه هي الفعل الذي سأكمل به أداء واجبي، لا، على العكس تماماً من هنا سأقطع على نفسي العهد أمامكم على أن أسعى خلف المعلومة الصحيحة وأقتل الشائعة في وكرها قبل أن تبث سمها.
سأُفني حنجرتي في الذود عن الحقيقة والعلم، وإن مُتُّ فقولوا إن صبيةً في العشرين من عمرها حملت الوطن في قلبها وتمسكت بحبال الله في نشر الرّسالة وتصحيح المعلومة والمفاهيم.
أملي كبيرٌ جداً أن أكتب مقالتي المُقبلة وأنا أعلن أنني وشعبي قد نجونا من انتشار الفيروس وها هو ذا ينحسر ويخسر أمام جبروتنا التي انكسر على أعتابها آلاف الصّواريخ والمئات من التّفجيرات وبقيت ابتسامتنا ورغبتنا في الحياة هي النّاجي الوحيد والفائز الأعظم.
وإلى لقاءٍ آخر.

العدد 1104 - 24/4/2024