كورونا.. ودفاع الطبيعة عن نفسها

إيمان أحمد ونوس:

منذ أن وجِدَ الإنسان على سطح هذا الكوكب، بدأ يوماً بعد آخر باستغلال موارده وخيراته بطرق تتفق ووعيه البدائي وحاجاته البسيطة آنذاك، التي لم تتعدَّ الطعام والشراب وما يدافع به عن نفسه تجاه ما يعترضه من وحوش ضارية أو مفترسة. ولاحقاً بدأ باستنباط وسائل لتخزين كميات أكبر من حاجاته درءاً لتقلّبات المناخ والفصول.

لكن، مع تطور الوعي البشري، وإدراك الإنسان لما تكتنزه الأرض في باطنها، ومع نشوء المجتمعات وبداية تقسيم العمل، ظهرت التجمّعات الحرفية والمهنية التي تحتاج إلى العديد من موارد الأرض من أجل الإنتاج، وهكذا وصولاً إلى عصر الثورة الصناعية التي استغلت الطبيعة والإنسان معاً لزيادة كميات الإنتاج بأقلّ كلفة من أجل التبادل التجاري بين الدول، وهذه المرحلة قادت الصناعيين إلى مرحلة الاحتكار للتحكّم بقانون العرض والطلب، ومن ثمّ قادت الرأسمالية إلى استثمار كل ما يمكن استثماره من خيرات الطبيعة، وبمختلف الوسائل والطرق التي أدّت لاحقاً إلى كوارث خلخلت بنية النظام العام للأرض، فظهرت مشكلة الأوزون التي أثّرت بشكل كبير على حياة الكائنات الحية وأولها الإنسان، دون رادع أو ضمير يستجيب لنداءات واستغاثات صدرت عن منظمات بيئية وعلمية وحقوقية، ورغم عقد المؤتمرات الدولية من أجل حماية البيئة والمناخ، إلاّ أن الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تجاهلت كل هذا، بل وأكثر، إذ انسحبت أمريكا من معاهدة المناخ لأنها تتعارض مع جشعها ووحشيتها في استغلال الطبيعة إلى أقصى مدى، إضافة إلى الحروب المستمرة التي تخلقها وتشنّها في العديد من المناطق للتحكّم بموارد وخيرات شعوب أخرى من أجل تغذية رأسماليتها التي ابتدعت لأجلها وسائل وأدوات لا أخلاقية تمثّلت بحروب عسكرية وبيولوجية ونووية متنوّعة أشهرها الهجوم الذري على ناكازاكي وهيروشيما وقبلها على فيتنام إبان الحرب العالمية الثانية، وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا بنهجها اللاّإنساني تجاه الأرض وشعوبها كي تنقذ نفسها من أزماتها الاقتصادية المتتالية والتي تدفع شعوب الأرض الفقيرة ضريبتها، وكان آخرها الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالرأسمالية عام 2008 وقادت العالم إلى حروب وكوارث فظيعة لم تنجُ منها منطقتنا التي شهدت في العقد الأخير أبشع وأشنع الحروب إضافة إلى حروبها التجارية مع الصين وغيرها من قوى صاعدة.

إن هذا الاستغلال الجائر واللاّأخلاقي للطبيعة والإنسان يقود العالم إلى كوارث بشرية دمّرت بنية المجتمعات الأخلاقية والتحتية من جهة، ومن جهة أخرى أدّت إلى كوارث بيئية نتيجة دفاع الطبيعة عن ذاتها في وجه جبروت وجشع الإنسان، وما يعيشه العالم اليوم من هلع ناتج فيروس متناهي الصغر قياساً لحجم الإنسان هو أحد أوجه دفاعات الطبيعة عن نفسها مثلما هو أحد أشكال الحرب التي يشنّها الإنسان ضدّ نفسه. لقد ترك (كورونا) البشرية قاطبةً وجِلَة وفي حالة من الفوضى والرعب والبحث المُضني عن علاج مضاد له كي يتمّ إنقاذ ما يمكن إنقاذه، مثلما تركت الفقراء في دوامة من الجوع بسبب إجراءات وقائية تطلّبت حجرهم منزلياً، لكنها تركتهم أيضاً في حالة حجر عن تأمين قوت يومهم لاسيما أولئك الذين يعتاشون على مردود عملهم يوماً بيوم، وهنا سنُصبح أيضاً أمام كارثة إنسانية خطيرة، فالجوع بحدّ ذاته وعدم تلبية احتياجات الجسم من غذاء ودواء يدافع به عن نفسه تجاه هذا الفيروس وغيره من أمراض قد تكون أخطر من كارثة كورونا ذاته. وهذا يتطلب من حكومتنا الانتباه إلى تلك الشرائح المُعدمة بطريقة توازي إجراءاتها الإيجابية المُتّخذة لمواجهة الفيروس على الرغم من الإمكانات المحدودة التي فرضتها الحرب والعقوبات الدولية على سورية وشعبها والتي استنفذت قدرات الدولة والشعب معاً. على الحكومة اتخاذ إجراءات حازمة ضدّ كل من يحاول استغلال الظرف ويُكشّر عن أنيابه لافتراس مقدرات الدولة والناس من خلال رفع الأسعار إلى مستويات خيالية لكثير من المواد الضرورية في هذه المرحلة وأهمها الغذاء والدواء، لأن استشراء الفساد والاحتكار والغلاء لا يقلّ خطورة على حياة الناس من خطورة كورونا، وما قامت به الحكومة حتى اللحظة في هذا المضمار لا يكفي ولا يمكن أن يساعد على تجاوز كارثة كورونا بالشكل الإنساني والمقبول، فالذين يعتاشون على قوة عملهم اليومي لا شكّ لديهم أُسَر بحاجة إلى الغذاء والدواء، وعليهم التزامات أخرى كأجرة مكان العمل والمنزل فما هم فاعلون خلال فترة الحجر الصحي التي لا نعرف متى تنتهي، يجب اتخاذ إجراءات حكومية مُشدّدة تساعدهم على مواجهة الواقع المفروض بأشكال وطرق تتناسب مع الضرورات المفروضة كتأجيل دفع كل مستلزماتهم من إيجارات وضرائب وفواتير إضافة إلى تأمين مستلزماتهم اليومية الضرورية من صندوق المعونة الاجتماعية في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ومن الجمعيات الخيرية والأهلية وغيرها من جهات اجتماعية يمكن أن تساهم في التخفيف عن هذه الشرائح المُعدمة. فهلاّ التفتت الحكومة لهذا الواقع وتعاملت معه بالجرأة والجديّة التي تعاملت بها في مواجهة خطر كورونا!؟      

العدد 1102 - 03/4/2024