واقع الأحزاب والقوى اليسارية في المنطقة العربية والعالم.. وآفاق المستقبل
تضمّن تقرير المؤتمر الثالث عشر لحزبنا الشيوعي السوري الموحد، تحت عنوان (تحالف قوى اليسار) أن نجاح قوى اليسار يرتبط بالقدرة على جذب الشباب إلى صفوفها.
وقد وجدت أنه من المناسب نشر هذا الموضوع لأهميته (وهو منقول عن موقع ينايري وهو موقع مغربي للخبر والرأي. بابلو أكليسياس: السكرتير العام لحزب (بوزيموس) الإسباني وأستاذ العلوم السياسية يطرح بعض الأفكار لتطوير آليات العمل السياسي، التي من شأنها أن تساعد اليسار على التعامل مع الواقع الحالي وتؤهله للانتصار.
أعلم جيداً أن مفتاح فهم تاريخ الخمسمئة عام الماضية يكمن في ظهور أشكال اجتماعية محددة وهي (الطبقات الاجتماعية)، لذلك سأروي لكم طرفة: عندما بدأت حركة 15 أيار (مايو) من الاحتجاجات الإسبانية عام 2011 في (بويرتا ديل سول) قام بعض طلاب قسم العلوم السياسية الذي أدرّس فيه (وهم طلاب مسيّسون للغاية قرؤوا ماركس ولينين) بالمشاركة لأول مرة في حياتهم في مظاهرات مع الناس العاديين، فكانت النتيجة أنهم علّقوا بأسى: (إنهم_ يقصدون الناس العاديين_ لا يفهمون شيئاً!). وكنت أردّ عليهم: – ألا تكمن المشكلة فيكم أنتم؟ ألا ترون أن السياسة لا علاقة لها بكونكم على صواب، بل هي مرتبطة بالنجاح؟
يمكن للمرء مثلاً أن يمتلك أفضل أدوات التحليل ويفهم مفاتيح التطور السياسي منذ القرن السادس عشر، ويعلم أن المادية التاريخية هي أساس فهم الصيرورات الاجتماعية، لكنّه ماذا سيفعل بكل ذلك؟ أيصرخ بوجه الناس: (أنتم عمال حتى ولو كنتم لا تعلمون ذلك)؟! والعدو لا يريد شيئاً أكثر من الاستهزاء بنا. يمكننا ارتداء قميص ينطبع عليه رسم المطرقة والمنجل ويمكننا أيضاً أن نحمل علماً ضخماً، ثم نعود إلى بيوتنا حاملين ذلك العلم، والعدو يضحك علينا، لأن عامة الناس والعمال يفضلون العدو ويصدّقونه ويفهمونه عندما يتحدث، لكنهم لا يفهموننا. ربما كنا على حق لكن، وربما سنطلب من أولادنا أن يكتبوا على شاهدة قبرنا، بعد أن نموت: (كانوا دائماً على حقّ لكنّ أحداً لم يعرف ذلك)!
عند دراسة حركات التغيير الاجتماعي الناجحة، سنلاحظ أن مفتاح نجاحها هو خلق قواسم بين التحليل وبين ما تشعر به الأغلبية، وهذا أمرٌ صعب جداً، لأنه يتطلب منا مواجهة العديد من التناقضات. هل تعتقدون أن لديّ مشكلة إيديولوجية مع الإضرابات العفوية (غير المنظمة) ذات الثماني والأربعين ساعة أوالاثنتين والسبعين ساعة؟ على الإطلاق، لا! المشكلة أن تنظيم أي إضراب لا يرتبط بمدى رغبتي أنا أو رغبتكم أنتم في حصوله، بل هو مرتبط بمدى قوة النقابة، التي لا نملك لا أنا ولا أنتم أيَّ تأثير فيها.
أنا وأنتم نستطيع أن نتمنى أن تكون الأرض جنة لكل البشرية، نستطيع أن نتمنى أيّ شيء وأن نطبعه على قمصاننا، لكن السياسة ترتبط بالقوة لا بما نتمنّاه أو نقوله في المجالس المختلفة. في إسبانيا ثمة نقابتان فقط قادرتان على تنظيم إضراب عام: نقابة اللجان العمالية، واتحاد العمال العام، هل يعجبني ذلك؟ لا، لكن هذا هو الواقع، والواقع أن تنظيم أي إضراب عام هو أمر صعب جداً، ولقد شاركت ضمن خطوط الإضراب أمام محطات الباص في مدريد، أتعرفون ماذا كان يريد عامة الناس الموجودين هناك فجراً؟ كانوا يريدون الذهاب إلى أعمالهم – لم يكونوا من ( خائني الإضراب)، لكنهم كانوا سيُطردون من أعمالهم بسبب عدم وجود نقابات تدافع عن حقوقهم – العمال الذين يستطيعون الدفاع عن أنفسهم مثل عمال الموانئ وعمال المناجم لأن بظهرهم نقابات قوية تدافع عنهم، لكن الشبان الذين يعملون في التسويق الهاتفي أو مطاعم البيتزا والفتيات العاملات في متاجر التجزئة لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم دون نقابات سيفقد هؤلاء الشبان أعمالهم في اليوم التالي للإضراب، ولن تكونوا أنتم هناك ولن أكون أنا هناك أيضاً كما لن تكون أي نقابة هناك كي تجلس مع صاحب العمل وتعلمه بأن عليه أن لا يطرد أي شخص من عمله لممارسته حقه في الإضراب، وتحذره أن قيامه بذلك سيكلّفه غالياً. هذا لن يحصل، بغض النظر عن مدى حماسنا للقضية، فالسياسة ليست شيئاً على مزاجنا، إنها على ماهي عليه فعلاً في الواقع فظيعة، ولهذا علينا أن نتحدث عن الوحدة الشعبية، وعلينا أن نكون متواضعين.
في بعض الأحيان علينا أن نتحدث مع أشخاص لا يحبون المصطلحات التي نستخدمها، ولا تعنيهم المفاهيم التي نستعملها لتفسير الأمور فماذا يعني لنا ذلك؟ يعني أننا كنا مهزومين لسنوات عديدة والهزيمة مستمرة لكل ذلك الوقت تعني بالضبط شيئاً واحداً: إن ما يعتبره الناس أمراً منطقياً يختلف عما نعتقد نحن بصحته. هذا ليس أمراً جديداً، فالثوريون لطالما عرفوا أن النجاح مرتبط بإمكانية تحويل (الفهم العام) باتجاه التغيير. سيزار ريندويليس، وهو بالمناسبة شخص ذكي جداً، يقول إن معظم الناس ضد الرأسمالية دون أن يعوا ذلك، ومعظم الناس يدافعون عن الحركة النسوية دون أن يقرؤوا جوديت بتلر أو سيمون ديبوفوار – إن أباً يقوم بتنظيف الصحون أو يلعب مع ابنته، أو جدا» يعلّم حفيده مشاركة ألعابه مع الآخرين هو تحول اجتماعي أكثر إيجابية من الأعلام الحمراء التي يمكننا حملها في أية مظاهرة، إن لم ندرك أن هذه أمور موحدة لحركتنا سيظل الخصوم يهزؤون بنا هكذا يريدنا الخصوم صغيرو الحجم نتحدث بلغة غير مفهومة!!! أقلية تختبئ خلف رموزها التقليدية – هم مسرورون جداً بذلك، لأنهم متأكدون أننا إذا استمررنا في هذا النهج فلن يكون لنا أي تأثير.
يمكننا أن نقدم خطاباً متطرفاً وأن نقول إننا سننظم إضرابات عامة، ونتحدث عن تسليح الشعب، أن نلمّع رموزنا ونحمل صور الثوريين العظام في مظاهراتنا!!! سيكون خصومنا مسرورين وسيضحكون علينا – لكن عندما نجمع مئات أو آلاف الأشخاص، وعندما نبدأ بإقناع الناس أغلبية الناس حتى أولئك الذين صوتوا للخصم –عندئذٍ فقط سيشعرون بالفزع – هذا هو ما يسمّى: سياسة، وهذا ما يجدر بنا تعلّمه.
ثمة زميل تحدث سابقاً عن مجالس العمال السوفييتية خلال عام 1905، كان هناك رجل أصلع عبقري فهم التحليل الجذري لظرف حاسم في خضم الحرب عام 1917- بعد سقوط النظام في روسيا – وضع مقولة بسيطة جداً للروس سواء كانوا جنوداً أم عمالاً أم فلاحين، قال: (الخبز، والسلام)! وهما الشيئان اللذان أرادهما الجميع: – انتهاء الحرب والحصول على الطعام الكافي – ورغم أن الكثير من الروس لم يكونوا يعرفون ما إن كانوا يساريين أو يمينيين، لكنهم يعرفون أنهم جوعى قالوا: ما يقوله الرجل الأصلع صحيح، وكان أداء الرجل الأصلع جيداً. لم يحدثهم عن المادية الجدلية، بل عن الخبز والسلام، وهذا واحد من أهم دروس القرن العشرين.
إن محاولة تغيير المجتمع من خلال محاكاة التاريخ أو تقليد الرموز أمرٌ سخيف لا يمكن تكرار خبرات الدول الأخرى أو الظروف التاريخية السابقة.. الأساس هو تحليل الصيرورات ودروس التاريخ، وأن نفهم أن شعار الخبز والسلام، لو لم يكن متصلاً مع ما يشعر ويفكر به الناس لكان هو محض تكرار، على شكل مهزلة، لانتصار تراجيدي من الماضي.
يوسف فرحة
كندا
20 آذار 2020