بوحٌ روحيّ
غزل حسين المصطفى:
كنت أغوص في تفاصيل حديثٍ ما قد سمعته ودون أيّ انتباه لحركات
القلم بين أصابعي، فقط أفكر.
قاطعَتْ خلوتي قائلةً: وهل تتمرّنين
على رسمها؟
سؤالها حرّك نظري إلى الورقة الموجودة
أمامي، خمسة أضلاع مُتصلة، أبدأ برسمها كلُّ مرةٍ من جهة مُغايرة، والنتيجة
النهائية هي ذاتها.
قلت مع ابتسامة عريضة تَشي بعدم وجود
جوابٍ مقنِع لديّ: لا، أبداً، قد خبرت رسمها منذ أن استطعت الإمساك بالقلم، علّمني
والدي رسمها حينذاك.
قالت: العلاج بالفن هو إحدى
الطرق العلمية التي تقوم على استخدام تقنيات إبداعية مثل الرسم والتلوين واستخدام
الرموز والأشكال الفنية لمساعدة الناس على التعبير عن أنفسهم فنياً، وتزويدهم
بفهمٍ أعمق لأنفسهم وشخصياتهم.
قاطعتها: عفواً، لم أستوعب! وما
الرابط بين ذلك وشكل (النجمة) الذي أرسمه؟! هل ستُحلّلين شخصيّتي من خلالها!؟
ابتسمت وجلبت كرسيّها وجلست قُبالتي
وقالت: لم أقصد الربط ولكنني أفتح باباً للحديث، وجدتك غارقةً في التفكير فيما
سمعناه قبل قليل حول مشكلة تلك الطفلة، فوددت أن نستأنف في سُبل العلاج التي قد
نتبعها و(العلاج بالفن) واحدٌ منها.
لقد اتخذت من النجمة التي ترسمين
بدايةً لحديثنا، لأن مثل هذه الأشكال التي نرسمها نحن عفو الخاطر قد تُخبر المختص
بمجموعة من العوالم الداخلية التي تَخفى على الشخص نفسه ربما.
قاطعتها: أيمكنني القول إن هذه النجمة
التي أرسمها بالقلم على الدفتر أو أحاول إيجادها بين الأشكال في المدى قد تبوح
بالكثير عني؟! ولكن ماذا لو خرجت بلوحة غير مكتملة المعالم أو ربما بقيت تلك
الخطوط مجرّد خطوط في أفق أبيض لا تدلُّ على شيء
معيّن؟!
أجابت: لا تقيسي الأمور على نفسكِ،
نحن نتحدث في عموم الفكرة، إذ يجب ألّا تكون هناك موهبة فنية ضرورية لنجاح العلاج
بالفن، لأنّ العملية العلاجية لا تتعلق بالقيمة الفنية التي ينتجها العمل، وإنما
تتعلق بإيجاد ارتباطات بين الأعمال الإبداعية التي أنجزها الشخص، وما يشعر به في
أعماقه، ويمكن استخدام العمل الفني كنقطة بدايةٍ لإعادة إحياء الذكريات وحثّ الشخص
على أن يروي ما مرَّ به من أحداثٍ قديمة تركت أثراً عميقاً بداخله، ممّا يساعد في كشف الرسائل والمعتقدات
الموجودة العقل اللاواعي، إضافةً إلى تطوير سلوكاتهم ومشاعرهم وإدارتها وتحسين
احترام الذات. مثلاً عندما يكافح شخصٌ ما الاكتئاب أو يعالج اضطراب
القلق، غالباً ما يكون التحدُّث إلى الناس هو آخر ما يريده. لكن طبيعة العلاج
بالفن يمكن أن تكون أكثر راحة بالنسبة له. علاوةً على ذلك، يساعد العلاج بالفنّ
على إشراك أجزاء مختلفة من الدماغ، ممّا يُحفّز إطلاق مواد كيميائية في المخ تشعرك
بالرضا.
لم يتجاوز صمتها بضع ثوانٍ حتّى قلتُ لها: قبل أن أعرف هذه التفاصيل المهمة فعلاً، كنت أنظر إلى
الفن بمختلف جوانبه على أنه بوحٌ روحيٌّ لا يُعبّر عن مكنونات نفس مبدعه، وإنما عن
انعكاس الواقع على حنايا روحه، ومجرّد أن يستوقفنا أيُّ عملٍ فني قد نجد في جزءٍ
منه ذاتنا التي شحب ظلّها وتبدّدت معالمها، هناك وعلى أعتاب لوحةٍ أو قصيدةٍ ننتشي
ونثمل من قدحِ لحنٍ موسيقيٍ وجدناه مصادفةً، لكنّه كان الولادة الحقيقية للنَفَس
في صدورنا.
هذا ليس كل شيء، وكانت رؤيتي تتّخذ
بُعداً عميقاً لتلك المجتمعات التي تُقدّس الفن وتفرد له مساحةً لا متناهية ليُراقص
فيها كل الجزئيات، فيتغلغل في السياسة ويتشرّب القضايا الإنسانية، يتسكّع في شوارع
حقوق الإنسان، يقتفي أثر الخطابات السياسية ويسترق النظر إلى صومعة معتكفٍ يُعلّق
خيوط روحه مع الله، وفي نهاية المطاف يجلس مُفترشاً الأرض وسط العاصمة يفرد تجربته
للناس، لا ينظر إلى وجوههم وطبقاتهم الاجتماعية، والهمُّ الوحيد لهذا الفن أن ينفخ
في بوقه، فيلتفت الناس إلى لوحة كاريكاتور تُخبرهم أن كذب ذلك السياسي ونفاقه
نلمسه كلنا، وفي مشهدٍ مسرحيٍ صامت يبكي الجميع من ألمه، ووحده الفقير من يُصفّق، فقد
رأى للمرة الأولى حالة تعاطفٍ حقيقية مع حاله حتّى وإن كان الضوء مُسلّطاً على
خشبة المسرح لا على ألواح سقف بيته البائس.
بعد كل ما سبق، أرى أن الرابط بين
الفكرتين (العلاج بالفن، والفن بحدّ ذاته) مع وجود فروقٍ تُميّز كلّاً منهما، يبقى
قويٌاً، توحّدهما تلك الهالة التي يمكن أن يخلقاها للإنسان والمجتمع في مختلف تجلّياتهما.