إرهاب داعش والنصرة هو الوجه الأقذر للإمبريالية المعاصرة

بولس سركو:

 قبل سنوات من بداية الحرب على سورية، دار بيني وبين أحد مثقفي اللاذقية حديث حول متغيرات العالم، سألته ما إن كان قد قرأ كتاب (العولمة والعلاقات الدولية) للأمين العام للحزب الشيوعي الروسي غينادي زوغانوف، الذي صدرت ترجمته العربية في دمشق عام ،2002 فأجاب بالنفي وهو يشيح بوجهه جانباً، فأشرت إلى ضرورة الاطلاع على تحليله العلمي الدقيق لمرحلة العولمة المتوحشة التي نمر بها. فقال: الفكر في أيامنا تطور كثيراً، وخطاب الشيوعيين فات أوانه ولم يعد مقنعاً. شرحت له فكرة مختصرة عن توقعات الكاتب لمستقبل العلاقات الدولية وما سيشوبها من مخاطر مرعبة وقاسية ومدمرة، هرم التبعية والنزعة العسكرية لفرض الهيمنة بالقوة والاقتصاص من الدول والقادة المعارضين لهذه التبعية، والتصدعات الاثنية والطائفية، والأهم من كل ذلك دوامة الإرهاب التي يحضرونها. تململ الرجل وتمنّى عليّ التقدم نحو عصرنا بانفتاح، والتخلي عن الأوهام القديمة، معتبراً أن مركز ثقل الفكر انتقل اليوم الى حقول الحريات الفردية والحقوق المدنية، وأن مفهوم الإمبريالية قد تلاشى.

أدركت أن الرجل أصيب بداء العولمة المتوحشة الآخذ بالتفشي في أوساط الثقافة، وكان المصابون به هم الأكثر قابلية للتأثر، حين بلغت أوجها حمّى التضليل الإعلامي المعادي في الأشهر الأولى للحرب، فالناس غير المحصّنين فكرياً وسياسياً ترسخت في أذهانهم قناعة دعائية بأن جبهة النصرة الإرهابية (المتشكلة في 30 كانون الثاني 2012 هي صنيعة المخابرات السورية، كان يقال ذلك بحسم مرفق بلمحة من ذكاء المكتشف لأسرار الصراع وخفاياه، مع مستند غير صالح وهو أن بعض قادة جبهة النصرة الإرهابية هم من الذين أُطلق سراحهم من سجن صيدنايا أثناء المظاهرات، علماً بأن كل المؤشرات تؤكد استحالة استبعاد الأذرع الاستخبارية الغربية عن تشكيل هذه الجبهة الإرهابية، التي هي جزء من طبيعة العولمة الأمريكية.

كشف أحد محامي الدفاع عن السوري من دير الزور: تيسير علوني (مراسل قناة الجزيرة الذي اعتقلته السلطات الإسبانية عام 2003 وصدر حكم بسجنه بتهمة التعاون مع خلايا إرهابية عام 2005) كشف أن تقرير المخابرات الإسبانية وكذلك  أرشيف المحاكمات تضمن أسماء العديد من السوريين الذين أصبحوا اليوم قادة في الجماعات الإرهابية المقاتلة في سورية، ومن أهمهم أبو خالد السوري (محمد بهايا) وأبو مصعب السوري (مصطفى ست مريم) وكلاهما بالأصل من الطليعة المقاتلة لجماعة الإخوان المسلمين، ولديهما خبرة قتالية منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في أحداث حماه وحلب. وأضاف المحامي نقلاً عن التقرير إن جميع أفراد الشبكة كانوا ينعمون بتسهيلات التنقل بحرية بين دول أوربا وصولاً إلى باكستان وأفغانستان وتركيا. كما وصف التقرير محمد بهايا بأنه رجل البنية التحتية لبن لادن في أوربا، أما مصطفى ست مريم فقد أسس في لندن مكتب دراسات كان يحظى بغطاء دولي، قبل اعتقاله من قبل الأمريكيين في باكستان عام ،2005 وتسليمه لسورية التي أطلقت سراحه عام 2012 انتقاماً من موقف واشنطن المعادي، وليس بهدف تشكيل جبهة النصرة كما أشيع.

معلومات ويكيبيديا تشير الى أن أمر إعداد جماعة مقربة من تنظيم القاعدة في سورية صدر في آب 2011 عن زعيم داعش أبو بكر البغدادي، وقائد تنظيم القاعدة في سورية أبو محمد الجولاني، الذي التقى بعدد من السجناء المفرج عنهم ومنهم السوريين صالح الحموي وأنس حسن خطاب، وحضر اللقاء الفلسطينيان مصطفى عبد اللطيف بن صالح وإياد تبيسي أبو عمر، والعراقي أبو ماريا القحطاني، قبل إعلان تأسيس جبهة النصرة الإرهابية.

 لكن المعلومات الأعمق هي التي كشفتها وثائق ضابط المخابرات الأمريكية السابق إدوارد جوزيف سنودن عام 2013 الذي ألغت الحكومة الأمريكية جواز سفره واعتبرته هارباً من العدالة، بعد تسريبه تلك الوثائق إلى الصحافة، ومنها وثيقة تعود لعام 2004 تكشف عن عملية (عش الدبابير) الاستخبارية التي تقوم على توليد منظمة إرهابية جديدة من رحم القاعدة، لاستقطاب الإرهابيين من كل دول العالم بهدف زعزعة استقرار الدول العربية. ففي ذلك العام، حسب الوثيقة، يوم 19/2 قرر مديرو المخابرات الأمريكية والبريطانية والاسرائيلية العمل على شقّين، الأول يتعلق بتأسيس التنظيم المتطرف، والثاني القضاء التام على حزب الله اللبناني، وتم اختيار المعتقل في الأردن (أحمد فاضل نزال الخلايلة) ليحمل اسم أبو مصعب الزرقاوي، وينقل إلى الأنبار العراقية لتأسيس تنظيم داعش تحت إشراف العقيد مايكل أريسون (من المخابرات البريطانية) وحين اتسع نفوذ هذا الإرهابي وبدأ يتمرد على قائده، قُتل في بعقوبة عام 2006 وسُلِّم التنظيم ل(إبراهيم البدري) المكنّى بأبي بكر البغدادي، الخارج من سجن بوكا في بغداد .

بعد فشل العدوان العسكري الإسرائيلي على حزب الله عام ،2006 خرجت لجنة التقييم الاسرائيلية التي شكلت بعد الحرب بنتيجة أن القضاء على الحزب لا يمكن أن يتم الا بتجفيف منابعه من سورية وإيران، وعلى هذه النتيجة بدأ إعداد الخطط الأمريكية الإسرائيلية. وتقول وثائق سنودن إن أبو بكر البغدادي الذي أُخضع لتدريب مكثف في إسرائيل، استُدعي عام 2007 ليطلب منه استيعاب أعداد كبيرة من المقاتلين السنّة من السعودية واليمن وتونس وفرنسا وبريطانيا، والتوسع نحو الداخل السوري، وبربط هذه المعلومات يتضح أن مصدر الأمر بتشكيل جماعة النصرة الإرهابية هو المخابرات الأمريكية البريطانية الإسرائيلية، وأن الدول التي تهاجم سورية اليوم بالسر والعلن هي التي رعت الجماعات الإرهابية التي تقاتل في الداخل السوري، وأمنت لها الغطاء وحرية الحركة والتنقل والتمويل والتدريب والسلاح، وهي التي تديرها ميدانياً، وكل كلام آخر هو مجرد تضليل.

لا شك أن اعتراف كلينتون في مذكراتها (الخيارات الصعبة) بأن الإدارة الأمريكية هي التي قامت بتأسيس داعش، وما نشر من معلومات روسية مؤكدة عن إنقاذ المروحيات الأمريكية لقادة داعش من الحصار ونقلهم إلى مكان مجهول، والهستيريا التي يطلقها مندوبو واشنطن ولندن وباريس وتل أبيب وأنقرة بحجج إنسانية في الجمعية العامة، مترافقة مع حملات إعلامية على مستوى العالم بعد كل محاولة من الجيش العربي السوري لتحرير أرضه المحتلة، والغزو العسكري التركي المباشر والوقح دفاعاً عن مجموعات إرهابية مسلحة حزّت سواطيرها رقاب مئات الآلاف من الأبرياء، ومنهم علماء وباحثون وطيارون وشعراء وضباط وصف ضباط وجنود، ونساؤهم وأطفالهم ، لا شك أن ذلك صدم من حلموا بحقول الحريات الفردية والحقوق المدنية الموعودة، وهم يشاهدون بأم العين رايات الحقد المذهبي والطائفي السوداء تخفق في سماء هذه الحقول، ويتناثر على أرضها ركام المدن والقرى.

لكن أحداً من المناضلين ضد الإمبريالية ومن أجل العدالة الاجتماعية وسيادة الوطن لم يكن ينتظر أية وثائق وبراهين وأدلة، فمنذ لحظة انطلاق داعش والنصرة كنا متأكدين من أنها الواجهة الأقذر للإمبريالية الغربية المعاصرة.

العدد 1102 - 03/4/2024