هي عُكّازي

  غزل حسين المصطفى:

هي التي أدركتُ معها كلَّ المعاني: الحبّ، الأمان، السند.

هي عُكّازي، والصوت الذي يُغيّر مجرى أيامي.

أنا الانفعاليّ الغاضب أخبو حين تبتسم، أو حتى حين تُضيء على الشاشة الإلكترونية رسالةٌ منها.

وعدتُها في آخر لقاءٍ بيننا، حين اغرورقت عيناها بالدموع لوداعي، أنني سأكون عند حسن ظنّها، سأدرس وأتخرّج وأُقبِل بقوّةٍ على الحياة، يكفيني أنها معي.

في تلك اللحظة كان كلُّ شيءٍ يجذبني حتى أحتضنها وأمسح دموعها وأغرق بين خصلات شعرها ورائحتها.

هناك عند مفترق الطريق في الصالحية، افترقت أيدينا في آخر سلام ومضينا كلٌ إلى وجهته.

أخبرتني فيما بعد أنها خلال الطريق ما انفكّت عن المقاومة العنيفة مع دموعها والشوق الذي اندلع في شرايينها بعد ثوانٍ عدّة.

بكلّ حزمٍ وقوّة كنتُ أشدُّ من أزرها تارة، وتارةً أخرى أُلقي الدعابات، ولكنها لم تعرف ببركانٍ ناريٍّ كان يأكلني، يُمزّقني خلال رحلتي الطويلة عائداً نحو منزلي.

كانت الساعات الأصعب والأفكار تغرز أنيابها تحت جلدي، وتمتصّ بكلّ برودةٍ طاقتي، وتؤذي روحي.

إذ تحرّكت الحافلة وأنا ما زلت أفيض حباً، ورائحة الغرام تفوح مني على بعد عدة كيلو مترات، ابتسامتي العريضة جدّاً تبوح بكل شيء، إلى أن أزحت الستارة عن الشّباك، وصفعني ركام المنازل هناك على جانب الطريق.

كنت أرسم مخطّطي الشخصي، أرتّب التفاصيل وأغزل حلمي على نغم دقّات قلبٍ متفائل.

خطوات عدّة نحو المستقبل، كان مشهد الركام كافياً ليذكّرني بأنني أصبو للمستقبل في بلدٍ يعود مع كلّ نفَس ألف خطوةٍ للوراء، يتنفّس الموت، وينظر إلى هاويته منتظراً النهاية.

وصلتني رسالةٌ منها: (أحبك) لم أكن قادراً على الردّ، وبعد جهدٍ جهيد بعثتُ لها بقلوبٍ حمراء إلكترونية.

 _حملني التفكير إلى والدي الذي لم ينم لليالٍ عدّة، حين تعطّل البرّاد في البيت عن العمل، نتيجةً لسوء التغذية الكهربائية، وحين بادرت بمواساته قائلاً: (صحّتك بالدنيا أبو يمان!)، قال لي: (صحّتي؟! بُنيّ، برّادنا سعره فوق المليون… صحّتي بتروح وتجي، بس كيف بجيب برّاد؟!).

أبي، بكلّ صلابته ما استطاع المقاومة أمام هذه الموجة، كيف سأحارب وحدي وبحر الحياة وأمواجها العاتية مازالت أمامي، تُداعب أقدامي، ولم تبدأ بيننا الجولات الحقيقية؟!

_أأفكر في تأسيس منزل وأنا أمضيت الصيف كلّه أعمل، لأجمع تكاليف مشروعي الجامعي؟!

بعيداً عن الجغرافيا وتعداد السكان، عن التاريخ ومسير الإنسانية، عن علم النفس وتأثير الضغوط على النفس البشرية، بعيداً عن علم الاجتماع والظواهر المجتمعية، كيف نستطيع المقاومة أمام كلّ هذا البؤس الذي يلفُّ أنفاسنا، يخنق الأمل، يُبدّد الأحلام؟!

كيف يمكن أن تستمرّ البشرية بعد أن صار الزواج أشبه بمعجزة، وإن تجرّدت القضية من كلّ زخرف الحفلة والمصاغ و …الخ؟!

ماذا عن البيت وتجهيزاته؟!

ماذا عن طفلٍ لا ذنب له سيكون وليداً في حياة لا تملك مقومات الحياة؟!

ماذا عن مُتطلبات المعيشة؟!

وماذا، وماذا؟؟!

للحظة كاد عقلي ينفجر وتتطاير أشلائي في أعماقي، شعرت بالدم الذي سينبثق من جبيني، أمسكتُ الستارة وأعدت تغطية زجاج النافذة، فتحت هاتفي النقال واتصلت بها وسألتها: (هل ستصبرين على مرّي ووضعي وقبح الحياة؟!). قالت: (أنت مجنون! اتصلت وفيّقتني لتسأل هيك سؤال؟! لك أنا بحبّك، بحبّك وبكره الحرب والظروف!).

طال الحديث بيننا حتى غفوت على صوت ثرثرتها عن تفاصيل جارتها وصديقاتها وألوان الموسم لطلاء الأظافر.

لها أقول: سأقاوم!

العدد 1102 - 03/4/2024