صفقة (ترامب-نتنياهو) تضفي شرعية أميركية على ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية إلى إسرائيل

د. ماهر الشريف:
لم يكن غريباً أن تضفي خطة (السلام) التي أعلنها الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنتياهو، شرعية أميركية على توجه إسرائيل لضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية المحتلة، وخصوصاً المستوطنات اليهودية المقامة على أراضيها ومنطقة غور الأردن الاستراتيجية*.
إدارة ترامب تتجاوب مع رغبات اليمين الإسرائيلي
فقبل إعلان هذه الخطة كانت إدارة ترامب قد تجاوبت مع رغبات اليمين الإسرائيلي، عندما اعتبرت في مطلع حزيران/يونيو 2019، على لسان سفيرها في إسرائيل ديفيد فريدمان، أن إسرائيل يحق لها (في حالات معينة الحفاظ على أجزاء من الضفة ولكن ليس كلها) كما اعتبرت، في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، على لسان وزير خارجيتها جورج بومبيو، أن المستوطنات اليهودية (لا تنتهك القانون الدولي). وكانت هذه الإدارة نفسها قد أقرت، في آذار/مارس 2019، بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، وأعلن رئيسها آنذاك في تغريدة على حسابه الشخصي على تويتر، أنه (بعد 52 عاماً، حان الوقت كي تعترف الولايات المتحدة الأميركية بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان، التي تكتسب أهمية استراتيجية وأمنية عظيمة بالنسبة لدولة إسرائيل ولاستقرار المنطقة). وأشار نص الاعتراف الأميركي إلى أن الجولان منطقة تم الاستيلاء عليها من السوريين (بغية الدفاع عن النفس) إزاء (تهديدات خارجية) خلال حرب حزيران 1967. ومن المعروف أن إسرائيل قامت بطرد نحو 130000 مواطن سوري من هضبة الجولان بعد احتلالها، ثم أعلنت بعد 14 عاماً ضمها رسمياً في انتهاك صارخ للقانون الدولي، وهو ما عارضته في حينه الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، واعتبرت أن إجراءات إسرائيل بتغيير وضع الجولان (باطلة) [1]

المشروع الإسرائيلي لضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة
خلال حملته لانتخابات الكنيست التي جرت في نيسان/أبريل 2019، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في مقابلة أجرتها معه قناة التلفزة الإسرائيلية 12، أنه ينوي ضم المستوطنات في الضفة الغربية إلى إسرائيل، وأضاف: (سأطبق السيادة (الإسرائيلية) على المستوطنات من دون تمييز ما بين الكتل الاستيطانية والمستوطنات المعزولة). ثم أشار قبل ثلاثة أيام من موعد الانتخابات، في مقابلة مع قناة التلفزة 13، إلى أنه أبلغ الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن إسرائيل ترفض، في إطار أي اتفاق سلام مستقبلي مع الفلسطينيين، (إخلاء أي مستوطن) أو (الانسحاب من أي مستوطنة) من المستوطنات القائمة في الضفة الغربية، وأن إسرائيل لا يمكنها أن تدعم خطة السلام الأميركية إذا اقترحت الانسحاب من مستوطنات. وكانت اللجنة المركزية لحزب الليكود قد صوتت، منذ نهاية كانون الأول/ديسمبر 2017، على قرار يدعو إلى البناء الذي لا تحده حدود أو تقييدات في مستوطنات الضفة الغربية والسعي إلى فرض السيادة الإسرائيلية عليها. والواقع، أن قسماً كبيراً من اليمين القومي والديني في إسرائيل يطالب بفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، حيث يعيش اليوم أكثر 400000 مستوطن، باستثناء المستوطنين الذين يعيشون في القدس الشرقية المحتلة، والذين يبلغ عددهم نحو 200000. وبحسب استطلاع أجرته صحيفة (هآرتس) قبل فترة، تبيّن أن 42 % من الإسرائيليين يؤيدون فكرة ضم الضفة الغربية بينما يعارضها 28 % ولم يتخذ موقفاً حيالها 30 %. وفي ظل تحوّل المجتمع الإسرائيلي نحو مواقع اليمين القومي والديني المتطرف، صارت نسبة لا يستهان بها من الإسرائيليين تأمل بطرد الفلسطينيين من أرض يعتبر كل ستة من أصل عشرة إسرائيليين (أن الله قد منحها لهم [2].)
بيد أن العامل الديموغرافي الذي يميّز الضفة الغربية المحتلة عن هضبة الجولان السورية المحتلة، في ظل وجود نحو ثلاثة ملايين مواطن فلسطيني في الضفة الغربية، يجعل ضم هذه المنطقة بكاملها إلى إسرائيل عملية تنطوي على تهديدات لمستقبل إسرائيل، إذ إنها ستعني منح هؤلاء الفلسطينيين الحقوق نفسها التي يتمتع بها الإسرائيليون بما فيها حق التصويت، أو، في حالة رفض منح هذه الحقوق، ستبرز الدولة الواحدة بصورة واضحة بوصفها دولة تمييز عنصري على غرار جنوب أفريقيا في الماضي. ولذلك يفضّل الاتجاه الغالب داخل السلطة الحاكمة في هذه المرحلة البدء بضم غور الأردن وجميع المستوطنات والبؤر الاستيطانية، وخصوصاً بعد إضفاء الشرعية الأميركية على هذه العملية.

إجراءات وقوانين على طريق الضم
في كتابه: (سر إسرائيل الكبير. لماذا لن يكون هناك دولة فلسطينية) يشرح الصحافي ستيفان أمار كيف أن حل الدولتين لم يعد قائماً، وأنه بعد 52 عاماً من استيطان أقيم لقطع أي تواصل بين المناطق الفلسطينية، أصبح الفصل بين إسرائيل والضفة الغربية مستحيلاً، معتبراً أن سيرورة ضم الضفة الغربية من جانب إسرائيل لا راد لها، وأن هذه السيرورة قد انطلقت منذ سنة 1967، ولم يعد من الممكن وقفها، وأن الدافع الرئيسي لضم هذه الأراضي اليوم هو اقتصادي في المقام الأول. فالنمو الاقتصادي والديموغرافي لإسرائيل لا يمكن احتواؤه، كما يكتب، في قطاع يمتد من أشكلون إلى حيفا، حيث يتجمع نحو 80% من السكان، وهو ما جعل التوسع نحو الشرق ضرورياً لإسرائيل، بحيث تصبح الضفة الغربية شيئاً فشيئاً جزءاً من إسرائيل. ويتابع الصحافي نفسه أن القدس الشرقية صارت تنفصل بصورة تدريجية عن الضفة الغربية[3].
وخلال نقاشات طاولة مستديرة حول موضوع: (كيف يمكن كبح تهديد (الاحتلال-الضم) الفعلي للأراضي الفلسطينية المحتلة وأثره على حل الدولتين؟) نظمت على هامش (منتدى الأمم المتحدة الخاص بقضية فلسطي) في 4 نيسان/أبريل 2019، استخدم البروفسور مايكل لينك، المقرر الخاص للأمم المتحدة حول حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تعبير (الاحتلال-الضم)، وشرح أن المرحلة الحالية لم تعد مرحلة الضم (الزاحف) وإنما مرحلة (الاحتلال- الضم)، وأن حكومة نتنياهو، وإن لم تكن قد أعلنت بعد رسمياً ضم الضفة الغربية، فهي اتخذت إجراءات عدة تنحو نحو الضم الفعلي لها، ونجحت في طمس الحدود بين إسرائيل والمناطق الفلسطينية المحتلة، وأضاف: (فخلال خمسة عقود أضفت إسرائيل طابع السيادة على الضفة الغربية. فالبنى التحتية – مجاري الصرف الصحي، وأنظمة الاتصالات وشبكة الكهرباء- قد أدمجت بصورة كاملة في النظام الإسرائيلي، والمنظومة الهيدرولوجينية في الضفة الغربية، هي منذ سنة 1982 ملكية شركة ميكوروت الوطنية، وتذهب منافعها إلى إسرائيل بصورة رئيسية، كما أن شبكة الطرقات التي كانت قائمة قبل سنة 1967، وتمتد من الشمال إلى الجنوب، أعيد وصلها بنظام طرقات تمتد من الشرق إلى الغرب للوصل بين المستوطنات وبينها وبين المدن الإسرائيلية… أما اقتصاد الضفة الغربية، فهو خاضع لمجرد اتفاق وحدة جمركية مع إسرائيل، بما يسمح للاقتصاد الأقوى بالسيطرة والازدهار، بينما يعاني الاقتصاد الأضعف من اللاتنمية والتبعية. كما أن الموارد الطبيعية في الضفة الغربية خاضعة بصورة كبيرة لإسرائيل ومستثمرة لصالحها. وجرى توسيع نطاق التشريع والقوانين الإسرائيلية لتشمل المستوطنات في الضفة الغربية) ويخلص مايكل لينك إلى أن إسرائيل (قد ضمت فعلاً جزءاً مهماً من الضفة الغربية صارت تعامله باعتباره جزءاً منها) [4].
وفي الاتجاه نفسه، يذهب الصحافي والكاتب جوناثان كوك إلى أن ضم مناطق في الضفة الغربية إلى إسرائيل سيضفي شرعية قانونية على واقع قائم فعلاً على الأرض، إذ إن ثلثي أراضي الضفة يخضعان فعلياً للسيطرة الإسرائيلية، ويعيش عليه مستوطنون بوصفهم مواطنين إسرائيليين. وبحسب المنظمة غير الحكومية (ييش دين) [هناك قانون] المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان، تم في الأشهر الماضية صوغ ما يقرب من ستين مشروع قرار من قبل نواب يمينيين في الكنيست كي تنتقل إسرائيل إلى الضم الرسمي، وبعض هذه المشاريع جرى إقراره فعلاً، ومن بينها القانون الذي يلغي المجلس الخاص المكلف بالإشراف على التعليم العالي في المستوطنات وينقل صلاحياته إلى المجلس الإسرائيلي الرئيسي للتعليم العالي، والقانون الذي يوافق على سرقة الأراضي الخاصة الفلسطينية المستخدمة لبناء المستوطنات، وذلك بعد أن كان الموقف الرسمي السابق يعتبر أن المستوطنات لا يجب أن تقام إلا على الأراضي التي تعلنها إسرائيل أراضي دولة لأنها لا تعود ملكيتها إلى الفلسطينيين، والقانون الذي يوحد السجل العدلي المستخدم من الشرطة الإسرائيلية في إسرائيل وفي المستوطنات، والقانون الذي ينقل سلطة البت في قضايا متعلقة بالضفة الغربية إلى محاكم ذات مستويات دنيا في إسرائيل[5].
وكان بنيامين نتنياهو قد أعلن، في مؤتمر صحفي عقده في واشنطن عقب إعلان (الصفقة) الأميركية، أن إسرائيل ستفرض سيادتها على غور الأردن، وأضاف أن ترامب (فضح كذبة كبرى) مفادها أن إسرائيل تحتل بصورة غير شرعية أرض أجدادها، وتوجّه إلى الرئيس الأميركي بقوله: (إنكم تعترفون بسيادة إسرائيل على جميع المستوطنات اليهودية الكبيرة والصغيرة). وبعد أن أشار إلى أن خطط (السلام) السابقة أخفقت (لأنها حاولت الضغط على إسرائيل كي تنسحب من مناطق حيوية مثل غور الأردن)، أكد أن ترامب (اعترف بأن على إسرائيل فرض سيادتها على غور الأردن وعلى مناطق استراتيجية أخرى في يهودا والسامرة). وقد أراد نتنياهو أن يطلق، بعد عودته مباشرة إلى إسرائيل، مشروع ضم غور الأردن والمستوطنات اليهودية، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة، بضغط من حلفائه الأميركيين، الذين دعوا، على لسان مستشار الرئيس جاريد كوشنير، إلى تأجيل الضم الرسمي بانتظار انتخابات الكنيست في مطلع آذار القادم، وتشكيل حكومة (مستقرة).
وكان منافسه الرئيسي بني غانتس، زعيم تحالف (أزرق أبيض) الذي أكد دعمه الخطة الأميركية، بوصفها توفر (قاعدة ثابتة وحيوية لتقدم السلام مع الفلسطينيين)، قد نبّه إلى أن (وضعها موضع التنفيذ يحتاج إلى وجود حكومة قوية ومستقرة لا يقودها شخص متهم باتهامات خطيرة بالفساد، ومدفوع كلياً بمصالحه الشخصية) [6].

معارضة يهودية أميركية لفكرة الضم    
يواجه ضم الضفة الغربية، أو المستوطنات المقامة فيها، معارضة داخل الجالية اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية. فبحسب الكاتب إيريك كورتليسا، الذي نشر مقالاً في 15 نيسان 2019 في موقع (تايمز أوف إسرائيل)، سيخلق قرار أحادي الجانب بضم المستوطنات إلى إسرائيل انقساماً داخل التجمع اليهودي الأميركي حول (أخلاقية) إسرائيل. وكان زعماء منظمات يهودية عدة، من ضمنهم الحاخام ريك جاكوبس رئيس (الاتحاد من أجل اليهودية الإصلاحية)، قد صرّحوا لـ (تايمز أوف إسرائيل)، أن فرض السيادة الإسرائيلية من جانب واحد على المستوطنات (سيقضي على احتمال التوصل إلى حل الدولتين). ويتخوف أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية من تأثير خطوة الضم هذه على الشبان اليهود الأميركيين، الذين صاروا يميلون نحو اليسار بمعظمهم، والذين راحوا، بحسب استطلاعات عدة، يبتعدون عن إسرائيل في السنوات الأخيرة، خصوصاً مع تزايد نفوذ الأحزاب الدينية، مثل شاس ويهودات هتوراه، داخل المجتمع الإسرائيلي. وكانت تسع منظمات يهودية، من ضمنها خمس تنتمي إلى الحركتين الإصلاحية والمحافظة، قد وجهت في نيسان 2019 رسالة إلى دونالد ترامب تدعوه فيها إلى الحفاظ على حل الدولتين رداً على تصريحات نتنياهو بشأن ضم المستوطنات. ومما ورد في تلك الرسالة: (إننا نعتقد أن الضم سيفضي إلى نزاع أخطر بين الإسرائيليين والفلسطينيين وسيقوض بشدة، وربما بصورة نهائية، التنسيق في مجال الأمن بين دولة إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ويشجع جهود حركات مثل حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات)، وتابعت: (إن هذا سيخلق انقسامات شديدة في الولايات المتحدة الأميركية، ويجعل من الصعب أكثر الحفاظ على الدعم الثابت لإسرائيل وأمنها) [7]. وبعد إعلان الخطة الأميركية، أكدت منظمة (جي ستريت) اليهودية الليبرالية أن الخطة، التي عرضتها إدارة (تريد تزكية برنامج السياسة الإسرائيلية اليمينية)، (لا تملك أي حظ لتكون أساساً لدبلوماسية متجددة)، مضيفة أن الرئيس ترامب وفريقه (بموافقتهما على فرض السيادة الإسرائيلية على مناطق واسعة من الضفة الغربية المحتلة، يمنحان الزعماء الإسرائيليين سلطة القيام بعمليات ضم أحادية الجانب تنتهك بصورة صارخة القانون الدولي، وتبدد حقوق الفلسطينيين، وتحمل خطراً كبيراً على مستقبل إسرائيل بوصفها وطناً ديمقراطياً للشعب اليهودي) [8].




* كنت قد نشرت منذ أواخر آب/أغسطس 2019 مقالاً بعنوان: (هل بات أمراً وشيكاً قيام حكام إسرائيل بضم الضفة الغربية المحتلة أو مناطق واسعة منها؟)

العدد 1102 - 03/4/2024