فرسٌ بريةٌ جموحٌ.. تهابها الحياة!
إيناس ونوس:
شمسٌ ساطعةٌ تتبعثر أمامها كلَّ محاولات غيوم الشِّتاء السَّوداء أن تخفي أشعتها وتلغي دفأها.
لبوةٌ شرسةٌ في الحصول على حقِّها وحق من معها.
فرسٌ بريةٌ جموحٌ تجابه صعوبات الحياة.
سنديانةٌ قويةٌ تقف في مهبِّ الرِّيح.
شجرةُ زيتونٍ احترفت العطاء على مدار عمرٍ طويلٍ.
هي المرأة السُّورية، كما الشَّجرة بكلِّ تجلياتها، تعرف كيف تنحني مع الرِّيح، فلا تنكسر ولا يُصيبها اليباس أو الموت، رغم كلِّ ما مرَّ ويمرُّ بها من ويلاتٍ ونكبات، والعمود الفقري في كلِّ مكان، تقاوم الموت، بأبشع صوره، بصمودها وجبروتها.
يُجدِّد آذار إطلالته علينا ككلِّ عامٍ مُحمَّلاً بكل ما أوتينا من أملٍ ورغبةٍ في البقاء، لتتكلَّل طلَّته البهية بعيد المرأة، مروراً بعيد المعلِّم، وصولاً إلى عيد الأم. أعيادٌ ما هي إلاّ تعبيرٌ بسيطٌ عن محاولة تقديرنا للمرأة السُّورية الصَّلبة المتماهية الجذور مع ترابٍ جُبل بدمائها ودموعها وعرقها، بأحلامها وأمنياتها وابتساماتها، وهي أثبتت فعلاً وعلى مرِّ الزَّمان أنَّها ابنة الحياة وأمُّها، رفيقة الدَّرب وصانعة الرِّجال، ففي كل الأدوار التي فُرِضت عليها أخذت موقعها بكل جدارةٍ، فهي الأم والأب معاً، تزرع بذور الحياة رغم القحط اليومي، تُتمتم في السِّرِّ والعلن صلواتها لعلَّ السَّماء تحفظ لها من نهشهم بنو البشر، تُجابه كل الصُّعوبات لتُمهِّد الطَّريق لفلذات كبدها، فتقتطع من لحمها طعاماً لهم، وتُحلِّي دموعها لتسقيهم، ومن أحلامها الموءودة تُغذِّي جذوة الأمل فيهم.
هي العاملة والممرِّضة والطَّبيبة وربَّة البيت و…، قد تحوَّلت إلى آلة عطاءٍ متواصل على مدار السَّاعة دون أيِّما تقديرٍ مهما صغر ممَّن كان من المفترض بهم أنهم شركاء الألم قبل الفرح، سواء داخل مملكتها أو في عوالم عملها، فالجميع يلهثون للمزيد من تضحياتها دون أن يُعيروا عملها وتعبها أيّة أهمية، يزيدون أعباءها بدل دعمها ومساندتها، ومع ذلك تبقى مُصرَّةً على تقديم المزيد، لإدراكها أنها وحدها تُدافع عنهم في معاركهم جميعاً ضدّ الموت المتكرِّر والجوع اليومي والتقهقر المتزايد.
هي المعلِّمة، وأساس أحلامنا في الارتقاء بعلمنا، جنديٌّ متجاهَلٌ عمداً، رفيقها الخطر بكلِّ أشكاله تؤدِّي رسالتها السَّامية، مُتحمِّلةً كل أصناف الصَّفعات من كلّ حدبٍ وصوب، تغدو دون حمايةٍ أو رعايةٍ وتحديداً من رؤسائها ومسؤوليها، في زمنٍ بات العلم فيه حقل تجارب للفاشلين.
إنها الأنثى، التي تناست أنوثتها في ظلِّ الشَّقاء والرَّكض وراء لقمة عيشٍ تسدُّ رمق من أضحت مسؤولةً عنهم بين ليلةٍ وضحاها، مُغمضة العين عن حقوقها وحياتها الخاصَّة وحلمها بدورها الأزلي، غير أن لهفتها المكتومة في سماع كلمةٍ لطيفةٍ أو الحصول على وردةٍ بلون الحبِّ تزيد من أملها بأن ما بعد كل هذا التَّعب أروع وأبهى.
تناور الفقر والجوع والمرض وتحتال عليهم لتحمي من حولها وتجعلهم يشبُّون على الأرض، فيعتمدون على أنفسهم، لتهبهم مُجدّداً للحياة التي أخذت منها كل شيء، مُصرَّةً على أن الدَّور لم ينته بعد، بيدٍ تُكفكف دمعةً نزلت، فيما تُشعل باليد الأخرى عود ثقابٍ يُدفئ كل من حولها اتِّقاءً لشرِّ البرد، لا تعرف اليأس رغم الانكسارات المتلاحقة والمتتالية، وبعد كلِّ كبوةٍ نهوضٌ يُجدِّد الأمل ويبعث في النُّفوس الصَّبر والحلم بالغد المشرق، تحمل الخبز على رأسها، لانشغال كفَّيها بحملٍ آخر، فيما تُعلن قدماها تحدِّيها وصلابتها، بينما تغزل نظرات عينيها حلماً لا بدَّ له أن يتحقَّق.أمامكِ، وأمام عظمتكِ التي تُضاهي عظمة الآلهة، تختلط المشاعر بالكلمات، فتقف حائرةً عن التَّعبير، وحدكِ من يحقّ لك سيدتي أن يُكرِّر آذار إطلالته كلَّ عامٍ لأجلكِ، فهو الوحيد الذي لم ينسَكِ يوماً، يُجدِّد مجيئه ليُعمِّد الحياة ببعضٍ من تفاصيلك، فكل آذارٍ وجذورك أيتها المرأة الأم والمعلمة أعمق!!