مشهور غريبة.. المناضل العريق الذي ستفتقده الحركة العمالية
يونس صالح :
هناك مناضلون أسهموا مساهمة حقيقية في تطور الحركة الشعبية المناهضة للظلم الاجتماعي في بلادنا، تنحسر عنهم أضواء الشهرة في تاريخنا المعاصر، مع أن هذا التاريخ يؤكد عند استنطاقه أنهم أسهموا في الارتقاء بالحياة الاجتماعية والثقافية، وكرسوا بسلوكهم وممارستهم أفضل التقاليد الكفاحية العريقة للشعب، وعملوا على أن ينقلوا ما عرفوه إلى بني وطنهم وأن يبدعوا في أكثر من مجال، وأن يستجيبوا لتحديات التخلف في مجتمعهم، رغبةً في الارتقاء بهذا المجتمع.
إن مشهور غريبة هو واحد من هؤلاء المناضلين، فقد كرس منذ نعومة أظفاره، ولم يبلغ السادسة عشرة من عمره، جل حياته من أجل قضية الشعب، ومستقبله، واستمر طوال عمره المديد ملتصقاً عميقاً بالجذور، ومعبراً عن الواقع المرّ الذي كان يحياه أبناء الريف السوري ومعاناته من جور الإقطاعيين.
ولد مشهور غريبة عام 1930، في بلدة المشرفة، القريبة من مدينة حمص، هذه البلدة الكبيرة نسبياً بعدد سكانها آنذاك، وذات الأراضي الخصبة، التي كان يملكها إقطاعي لبناني أجّرها لإقطاعي سوري من مدينة حماة من آل مرهج، عمل جاهداً من خلال أزلامه لامتصاص عرق وجهد كادحي هذه البلدة.
كانت الحركة الشيوعية ناشطة في محافظة حمص أوائل الأربعينيات، وكانت تأثيراتها تتوسع تدريجياً وتنطلق من المدينة إلى الأرياف المثقلة بجور الإقطاعيين على مدى مئات السنين.. وتصل إلى بلدة المشرفة عبر بعض الطلاب الذي كان من بينهم مشهور غريبة، الذي سيصبح فيما بعد معلماً في المدارس الابتدائية في هذا الريف. ينتسب إلى الحزب الشيوعي عام 1946 هو والعديد من أبناء جيله في هذه البلدة، وتبدأ بالنسبة له حياة جديدة كُرِّست دون كلل، لأجل التخلص من تلك العلاقات الإقطاعية المتراكمة خلال عهود الظلام على كاهل كادحي الريف. ومنذ عام 1946 يبدأ مشهور غريبة هو وعدد آخر من متنوري بلدته بقيادة النضال من أجل حقوق الفلاحين، وكان من الطبيعي أن يتعرض هو وعدد آخر من مناضلي البلدة لتهديدات الإقطاعي وأزلامه، إذ أخذوا يكثرون من الاعتداءات على الفلاحين الذين بدؤوا يؤيدون هذه المجموعة الصغيرة من الشباب، الذين ثاروا على هذا الوضع المحزن لكادحي البلدة.
تجري محاولات عديدة للاعتداء على مشهور غريبة ورفاقه، إلا أن ذلك قد زاده إيماناً بعدالة قضيته، كان المحامون الشيوعيون في حمص يدافعون أمام المحاكم السورية عن الفلاحين المضطهدين، ويقدمون لهم المساعدات الكبيرة، وتجدر الإشارة هنا إلى دور المحامي الشيوعي خالد كالو، المشهور باستبساله في الدفاع عن القضية الفلاحية.
أتعرف على مشهور عام 1954 في منزل والدي، حيث كانت وظيفته الإدارية تلزمه بالعيش في هذه البلدة، كان مشهور قد بلغ سناً ناضجاً آنذاك، بينما كنت أنا لا أزال لم أتلمس بعد طريقي اللاحق، ورغم فارق السن، إلا أن صداقتنا قد توطدت تدريجياً، كان دائماً لديه ما يقوله، وكان يعبر عما يجيش به صدره ببساطة، دون البحث عن الشهرة، وكان يعبر بعمق عن صعوبة حياة أبناء بلدته الذين يرزحون تحت ثقل اضطهاد الإقطاع وأزلامه. لقد دخل مشهور إلى منزله وأصبح عضواً في الأسرة، هكذا ببساطة ودون تصنّع، كان واحداً من الذين رسموا تطلعاتي اللاحقة في مسيرة الحياة التي قطعتها.
كان مشهور صادقاً وحاراً، لذلك كان أصيلاً في معاناته، ولغته، وانتمائه، ووطنيته، وإنسانيته، وتعامله مع الواقع، وإعادة تركيبه من جديد.
في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، انخرط مشهور في النضال ضد الديكتاتوريات العسكرية، ويتعرض للاضطهاد والملاحقة، وبعد سقوطها في النضال ضد الأحلاف، ويخوض مع حزبه والقوى الوطنية الأخرى المعركة الوطنية ضد السيطرة الاستعمارية. يتعرض مشهور للسجن والملاحقات في سنوات تراجع المد الديمقراطي، كما تتعرض زوجته أم طالب، المناضلة أيضاً، للاضطهاد والسجن.. أسرة بكاملها وهبت كل ما لديها أجل مستقبل الكادحين، ولأجل العدالة وازدهار الوطن.
كانت حياة هذا الابن البار للريف السوري مرتبطة بالمسألة الزراعية، لقد عاشها في الصميم، وفهم مشكلاتها، وعمل بكل ما يستطيع من قوة كي يجد الحلول الجذرية لها، إن حياته لم تكن عابرة، كان في قلب عصره المصطخب، وها هو ذا يرحل مخلّفاً إرثاً كفاحياً عميقاً لا يموت أبداً، لا يستطيع أن يموت.