طبقة الترانزيت.. وخيانة الديمقراطية

يونس صالح :

أكثر من 19 مليون طفل غير شرعي أنتجتهم أمريكا في عام 1918. إن الأمريكي يهرب من العائلة الطبيعية، ويلعب البولينغ وحيداً هرباً من العائلة الرياضية. إن طبقة (الترانزيت) تصعد وتسود، وفي ظلها تنهار المدن، وتتهاوى القيم، ويرث أبناء الزنا الأرض.

صدر في الولايات المتحدة الأمريكية كتاب (ثورة النخبة وخيانة الديمقراطية) للمؤرخ كريستوفر لاش. وترافق صدور الكتاب مع دراسة اجتماعية شاملة وضعتها إحدى مؤسسات تنظيم الأسرة، وكشفت فيها أن عدد المواليد غير الشرعيين في أمريكا بلغ أكثر من 19 مليون طفل، أي ثلث عدد أطفال أمريكا تقريباً، وسبق ظهور الكتاب بحثٌ لأستاذ جامعي في هارفرد بعنوان (أن تلعب البولينغ وحيداً: الديمقراطية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين)، كشف فيه أن هناك 80 مليون أمريكي معظمهم يلعب البولينغ وحيداً، ويرفض الانتساب إلى أي فريق أو اتحاد رياضي. ويستنتج أن الحضارة الأمريكية تعيش أزمة، فالأمريكي بات يرفض الفريق والجماعة.

إن تطور الأحداث في الولايات المتحدة أكد نبوءة المؤرخ كريستوفر لاش في أن (القنبلة الجديدة) بقيادة الميليشات العسكرية والثقافية والعنصرية بألوانها المختلفة هي المولود الطبيعي لنخبة تحكم أمريكا اليوم وتخون تاريخها و.. الديمقراطية.

ما هي إذاً العلاقة بين أولاد الزنا ولعبة البولينغ والديمقراطية؟

توجد هنا محطات

 طبقات الترانزيت، يعرّف (لاش) النخب الجديدة بأنها (ارستقراطية الموهبة التي تحاول أن تحتل المكان نفسه الذي كانت تشغله ارستقراطية الولادة)، ويقول: (إن الطبقة العليا الجديدة لا يتم تعريفها بالإيديولوجية، بل بطريقة حياتها التي تصبح يومياً أكثر اختلافاً عن الآخرين. إن أفرادها لا يعتمدون على ما يملكون من عقارات، بل على احتكار المعلومات والخبرات التقنية، إنهم يستثمرون في تعليم أنفسهم وأطفالهم، وفي الحصول على المعلومات وليس في الملكيات كما كان يفعل أجدادهم من قبل).

أما أفراد هذه الطبقة فيتوزعون مهناً تحتقر العمل اليدوي فهم: (مضاربون ورجال مصارف ومحللو برامج وأطباء وناشرون ومديرون تنفيذيون وممثلون ومنتجو أفلام وصحافيون ومعلقون وكتاب وأساتذة جامعات ومهندسون وسماسرة ومقاولون، وبالتالي فهم يختلفون في الرؤى السياسية)، أما ما يجمع أبناء هذه الطبقة فهو القدرة الهائلة على الحركة والانتقال. يقول لاش: (إن الطموحين يعرفون جيداً أن العيش على طريقة الترانزيت هو ثمن التقدم)، ويعقد مقارنة بين أرستقراطية الترانزيت الحالية التي تحتكر المعلومات وأرستقراطية الولادة التي تحتكر الأرض، فيشير إلى (أن الأرستقراطية الجديدة ستهجر قلب الوطن إلى السواحل، والوطنية لا تملك الأولوية في سلم قيمها.. إنها دائماً في مرحلة عبور). أما في السابق فقد كانت (الملكية تقترن بالواجبات تكريساً للقول السائد: ورثناها عن آبائنا ونورثها لأبنائنا من بعدنا أحسن أحوالاً.. الملكية كانت تفرض واجبات مدنية على أصحابها، أما النخب الجديدة، فهي تقول عن نفسها إنها عالمية، وحدودها الكون)، ويستند المؤرخ إلى إحصائيات تكشف أن 20 بالمئة من أصحاب الدخول العالية يسيطرون على 50% من الاقتصاد الأمريكي، ويلاحظ أن هناك انحداراً في وظائف الإنتاج الصناعي، ويستنتج بالتالي أن اقتصاد الولايات المتحدة يعتمد بصورة متزايدة على المعلومات والخدمات.

ويعرض المؤرخ بعض نتائج (خيانة الديمقراطية) التي تمارسها هذه الطبقة الجديدة في مجالات الأسرة والتعليم والإعلام وغيرها، فيشير إلى (تغييب السياسة). فهذه الطبقة تحيل العالم إلى رموز من أجل أن تفهمه، ثم تقوم بتحليل هذه الرموز، والنتيجة أن الواقع الفعلي يختفي ويحل الرمز مكانه، ولا يعود أمام الأمريكي العادي إلا أن يفغر فاه ويتابع برامج الحزبين الكبيرين (الفارغين) وهما يطلقان برامج انتخابية لا يتمكن من فك طلاسمهما سوى (محللي الرموز) من أبناء الطبقة الجديدة.

إن غياب السياسة كما يؤكد لاش هو نتيجة طبيعية لغياب الحوار أو تغييبه، لأن وسائل الإعلام تعتمد على تكريس نوع من الحوار تخصي الحوار، لأن أصحابها هم من الخبراء، وبالتالي لا يمكن مجادلتهم). إن استطلاعات الرأي تكشف باستمرار عن تدهور معرفة هذا الأمريكي بالقضايا العامة. لقد تم إهمال المواطن العادي، مع أنه هو الموضوع الدائم للحوار بين أهل المعرفة.

لقد انعكست أخلاق طبقة الترانزيت أيضاً على العلاقات العرقية والدينية والجنسية في المجتمع الواحد، وحتى على العادات اليومية.. يكتب لاش: (إن عاداتنا في الأكل والشراب باتت أقل طقوسية واحتفالية، إننا نأكل ونشرب بينما نحن نركض لاهثين). وفي غياب الثوابت الوطنية يصبح كل شيء متحولاً، فالصراع بين السود والبيض يقود إلى (القبلية الجديدة). يقول: (إن القبلية هي آخر موضة أنتجتها رأسمالية الاستهلاك). وهذه القبلية لا تقتصر على أمريكا وحدها، (إن الوحدة الأوربية بقيادة (المحترفين) من محللي الرموز سوف تؤدي إلى بعث القبلية)، وكذلك (فإن توحيد السوق يسير يداً بيد مع تفتيت الثقافة.. إن كل قبيلة أو أقلية، تحت شعار التعددية تقيم جزيرتها)، وفي مواجهة هستيريا الرعب الباحثة عن مواجهة مع المسلمين يدعو لاش إلى رد الاعتبار للتسامح.

أما فيما يتعلق بالنقود، فيقول لاش (إن النقود تخترق الحدود، تشتري ما لا يمكن شراؤه.. والغني يتحول إلى سوبرمان). إن الطبقة الجديدة التي تحتكر المعرفة، لا تختلف عن أي محتكر آخر، إنها تجمع الثروة بسرعة، وتجعل من هذه الثروة غير المستقرة، إلا في خزائنها، معياراً للنجاح، إنها تتعامل مع المدينة وهي أمل الديمقراطية باعتبارها مكاناً للعمل والتسلية وليست للوعي والاستقرار وتربية الأطفال، وبالتالي فإن المدن تنهار ومع انهيار المدن يخرج جيل من الأطفال، يهرب إلى الجريمة، لأنه يعرف أنه سوف يُقتل شاباً، ويعرف أن الجريمة هي السبيل الوحيد لاقتناص الثروة التي جعلتها الطبقة الجديدة معياراً للنجاح. إن الأسرة تصبح شيئاً من التاريخ، والأطفال عندما يكبرون وبسبب غياب أحد الأبوين أو كليهما، سوف يسلكون طريق آبائهم، مع ملاحظة أن معظم الأطفال غير الشرعيين هم من بيئة فقيرة، والشباب في معظمهم عاطلون عن العمل، وعاجزون عن إعالة أنفسهم، فيتخلون عن مسؤولياتهم العائلية، إنهم يعيشون وحيدين، وينجبون، ولكنهم يموتون وحيدين أيضاً. إن خيانة العائلة كما يؤكد لاش هي حلقة فحسب في سلسلة خيانة الديمقراطية.

إن العنف الهائل هو أبرز الظواهر التي يلاحظها الأجنبي عندما يزور أمريكا، وفي مواجهة العنف تختفي العلاقات الإنسانية والاجتماعية وتتحول المنازل إلى متاريس محكمة الأبواب، وتنشط شبكات الاتصال التي يمكن عبرها أن يتواصل الإنسان مع أنحاء العالم دون أن يغادر مقعده، وأكثر من ذلك فإن الصحافة الأمريكية أصبحت تقدم خدماتها فيما يتعلق بتقريب القلوب من بعضها البعض من خلال توفير الخدمات المتعلقة بهذا الخصوص، تتحول العلاقات الإنسانية إلى شركات الخدمات التي لا تبخل على من يدفع.. إن الوشائج الاجتماعية بدأ يصيبها الانحلال، كما يؤكد الكثير من عملاء الاجتماع الأمريكان.

إن المثل الأمريكي الذي يقول إن (السياج الجيد يصنع جاراً جيداً)، كان يصح في الماضي كما يؤكد لاش، إذ إن غياب الحوار وانهيار عقلية الفريق، وتغييب المشاركة السياسية والمدنية تؤدي إلى عودة القبلية الجديدة، ولعل المقارنة أن تكون أمراض (طبقة الترانزيت) في العالم الصناعي هي القاسم المشترك مع طبقات في عالم ما يسمى بالثالث اختارت أن تستقر في محطة السلطة لعقود مديدة كي تقمع كل من يتحرك!

وفي غياب الديمقراطية فإن (أبناء الزنا) يرثون الأرض.

العدد 1104 - 24/4/2024