الثورة على الذات ارتقاءٌ بالمجتمع

إيمان أحمد ونوس:

عبر التاريخ وحتى يومنا هذا، ترتكز المجتمعات البشرية بشكل جوهري على الفرد، كمكوّن أساس للعديد من التجمعات الفرعية التي تنضوي بالمحصّلة تحت لواء المجتمع ككل في أيّ بلد كان. وهذا ما يقودنا إلى أن الخصائص التي يتمتّع بها الأفراد لا شكّ تُعطي صورة عامة عن ماهية المجتمع وطريقة عيشه وتعامله مع مقتضيات الحياة كافّة. بالمقابل، لا شكّ أن العلاقة بين الفرد والمجتمع علاقة عكسية أو تبادلية، بمعنى أن المجتمع أيضاً يَسِمُ الأفراد بسماته التي يتمتّع بها، مثلما يفرض عليهم العديد من القيم والموروثات الاجتماعية والدينية وحتى السياسية، ما يجعلهم غالباً أسرى هذا الموروث رغم امتعاضهم منه أو رفضهم الضمني له، فقط كي لا يُغرّدوا خارج السرب وأعرافه فيصبحوا منبوذين.

لكن، أخبرنا التاريخ في مختلف المجتمعات أن هناك أشخاصاً/ أفراداً خالفوا العديد من القوالب الاجتماعية والدينية والفكرية السائدة، لأنهم لم يكونوا مقتنعين بها، ولأنها تعارضت مع تفكيرهم الذي غاير الزمن الحاضر لديهم، إضافة إلى الكثير من العلماء والباحثين الذين انتقدوا العديد من النظريات العلمية التي قامت عليها الدراسات والأبحاث ربما لقرن أو أكثر من الزمن، وأكبر مثال يُمكننا أن نسوقه في هذا المجال هو غاليلييه الذي رفض مقولة ثبات الأرض رغم أن مصيره كان الإعدام لأنه خالف المفاهيم والأعراف السائدة حينذاك.

بالطبع هذا يؤكّد أهمية دور الفرد في التغيير، وأن أيّ تغيير لا يمكن أن يكون جمعياً بالمطلق، إذ لا بدّ أن تنشأ فكرة التغيير لدى شخص، فيضعها موضع البحث والدراسة والمناقشة مع أُناس يُشابهونه ربما في التفكير، ومن ثمّ تأخذ تلك الفكرة حيّزاً يتسع شيئاً فشيئاً إلى أن تلقى الصدى المطلوب فتغدو سائدة. لكن كل هذا لا بدّ له من جرأة مخالفة الواقع والذات معاً، بمعنى مخالفة الفرد ذاته لما يعتقد به هو أولاً، ومن ثمّ تغيير السائد رغم رفض المجتمع بكل سلطاته القائمة لطروحاته وأفكاره، لاسيما إن كان الطرح يتعلّق بقضايا دينية أو سياسية حسّاسة.

غير أن ما نلمسه في واقعنا اليوم، وخاصّة في العقد الأخير الذي شهد تحولات وتغيّرات كبيرة على المستوى السياسي والديني والاجتماعي، جعلنا نُدرك أن محاولات التغيير في مجتمعاتنا ما زالت مجرّد إرهاصات عفوية هشّة لا تستند إلى قواعد فكرية حقيقية تسمو للتغيير، وذلك بسبب فصام شبه أزلي ما بين الموروث (بكل اتجاهاته) المُتجذّر في نسغ تفكيرنا وقيمنا كأفراد (اللاوعي)، وما نصبو أو نسعى إليه بحكم اطّلاعنا على تجارب الشعوب التي سبقتنا في مختلف الميادين (الوعي)، ولأننا كأفراد نكتفي فقط بانتقاد السائد ورفضه دون محاولة الخروج من شرنقته ولو قيد أُنملة، وحتى لو خالفنا القائم بعض الشيء، فإن تلك المخالفة تبقى في إطار التنظير لا أكثر، وأكبر مثال على ذلك انتقاد الطائفية السائدة، في الوقت الذي لا يُمكننا مخالفة طوائفنا ولو على مستوىً بسيط. لا شكّ أن هذا الوضع لا يمكنه أن يقودنا للتغيير المنشود، طال الزمن أم قصُر، ما لم نتجرأ ونثور على ذواتنا ومعتقداتنا كأفراد، حينئذٍ يُمكن للثورة الحقيقية أن تشمل المجتمع ككل باتجاه الحياة والحضارة والتطور. 

العدد 1104 - 24/4/2024