المسألة السكانية

د. أحمد ديركي:

لم تغب قضية التعداد السكاني عن ذهن المجتمعات البشرية منذ أن عرفت بذور الحضارة. ومع نشوء الدولة، بمفهومها الحديث، عادت المسألة السكانية لتأخذ مكانها المميز في الفكر، وقد يكون مالتوس أول من حاول (منهجياً)، مقاربة المسألة السكانية.

اعتبرت الدولة الحديثة المسألة السكانية قضية جوهرية تُحدّد في معظم الأحيان السياسات العامة للدولة، وبخاصة على المستوى الداخلي. من هنا أتى الإحصاء السكاني وما تبعه من تطورات لحقت به إلى أن أصبح علماً له منهجيته وأصبح اختصاصاً جامعياً. 

ويقع علم الإحصاء السكاني ونظرياته في صلب مفهوم الدولة على أكثر من صعيد، ومنها: (لا دولة بلا موازنة سنوية)، ولإبراز أهمية الاحصاءات السكانية والمسح السكاني الشامل و… يمكن الذهاب إلى المثال التالي: عند وضع الموازنة السنوية للدولة تُحسب الواردات والنفقات، والضرائب وجبايتها و… وفي الوقت عينه توضع التوقعات للسنة القادمة. توقعات لا تقوم على التخيل أو التوهم أو الاعتباطية، بل توضع على أسس علمية، ومن أبرز هذه الأسس معرفة التعداد السكاني بمعظم تفاصيله من نسب الولادات، ونسب الوفيات، والهرم السكاني، والإعالة، وتعداد اليد العاملة و… يجب معرفة كل هذه الأمور لتكون الموازنة صحيحة علمياً، وإلا لا حاجة لها.

من جهة أخرى هناك ما يُعرف بالسياسة الاقتصادية – الاجتماعية للدولة، ومهمة هذه السياسة الحفاظ على ما يُعرف بـ(الأمن الاجتماعي) للدولة.

 وهي سياسة تقوم أيضاً على أسس علمية لا اعتباطية يتداخل فيها عدة علوم ومنها علم الاقتصاد وعلم السكان وعلم الاجتماع، ومن خلال تداخلها وتعاونها ترسم السياسة الاقتصادية – الاجتماعية للدولة من أجل حفظ (الأمن الاجتماعي) للدولة.

من جهة أخرى هناك أمر له علاقة وطيدة مع علم السكان ولكنه غالباً ما يُهمل، عن قصد أو جهل، فيُفرّغ علم السكان من محتواه، إنه بُعد تشكّل (الأخلاق) و(المعتقدات)، بالمعنى الواسع لهذه المفاهيم.

 أمر يقودنا إلى واحدة من إشكاليات علم السكان وتطبيقاته في مجتمعاتنا، إشكالية نسب الولادة المؤثرة في النمو السكاني.

يقال عن أوربا إنها (القارة العجوز) ومن مسببات هذه التسمية الخلل في هرمها السكاني، ومن مسببات الخلل تدني نسب الولادات، إذ تصل في بعض بلدانها إلى ما يقرب الصفر.

 في المقابل يعاني (العالم الثالث) من (فائض سكاني) وتلصق بهذا (الفائض) كل الأمور المشينة التي يعاني منها (العالم الثالث). انطلاقاً من هذا المعطى تُطلق المقولات غير العلمية على (القارة العجوز) وتُصدق بوهم المتوهمين على أنها (حقيقة) علمية. ومن هذه المقولات أن سكان أوربا بعامة، (خاملون جنسياً) بينما (ذكور) (العالم الثالث) (فحول جنسية)، أو يمنع (الانحلال الأخلاقي) أوربا من النمو السكاني أو …إلخ.

كلا، الأمور لا علاقة لها بكل ما قيل سابقاً، بل تتعلق في جزء كبير منه بالسياسة الاقتصادية – الاجتماعية للدولة، مما يؤثر مع مرور الوقت على (الأخلاق) و(المعتقدات) للشعب.

 ولتوضيح هذا الأمر نذهب إلى التفسير التالي، وبشكل مختصر: تغيب في العالم الثالث أمور كثيرة من مقومات الدولة الحديثة، ومن هذه الأمور العناية الصحية المجانية الجيدة، ومجانيتها قائمة على مفهوم الضرائب.

 ففي ظل غياب العناية الطبية المجانية الجيدة ترتفع نسب الوفيات بين الأطفال الخدج، فيعمل الأهل على إنجاب أكبر عدد ممكن من الأطفال، لعلمهم المسبق، وبشكل غير واعٍ، أن ليس كل أطفالهم ستكتب لهم الحياة إلى سن البلوغ أو ما بعده. الأمر المقابل لمسألة نسب وفيات الأطفال مسألة (ضمان الشيخوخة).

 وهي مسألة شبه غائبة تماماً عن معظم، السياسات الاقتصادية – الاجتماعية لدول العالم الثالث إن لم يكن كلها. فعندما يبلغ مواطنوها سن التقاعد الوظيفي أو يصبحون في سن الإنتاج الاقتصادي تتدهور حالتهم الاقتصادية ويعيشون في فقر مدقع إن لم يكن لهم من منقذ أو معيل.

 فتعمل العائلة على إنجاب أكبر عدد ممكن من الأطفال خلال فترة خصوبة الزوجة كي يكون الأطفال معيلين للأهل عند وصولهم إلى سن الشيخوخة. ولهذا أيضاً علاقة بمسألة (زواج القاصرات) ولن نغوص بتفاصيله الآن. فيكون كبر حجم العائلة، بشكل غير واع، نوعاً من الضمان ولإنقاذ (الأبوين) من الفقر المدقع في سن الشيخوخة.

يقع سوق العمل، ومستويات الدخل، وفرص العمل و…الخ  ما بين (ارتفاع نسب وفيات الأطفال) و(ضمان الشيخوخة).

 أيضاً نتيجة لتخبط السياسة الاقتصادية – الاجتماعية تصبح عمالة الأطفال أمراً مألوفاً لارتفاع مستويات الفقر والأمية وعدم توفر فرص عمل، وبالأحرى عدم العمل على خلق فرص عمل جديدة تستوعب الجزء الأكبر من اليد العاملة الوافدة إلى سوق العمل بسبب النمو السكاني، فتمثل عمالة الاطفال دخلاً إضافياً للعائلة الفقيرة. أما من كان محظوظاً وحصل على تعليم جامعي فهو أيضاً يواجه (البطالة) وتدني مستويات الدخل إن وجد عملاً.

وبهذا ترتفع نسب الإعالة إلى حدود مرتفعة جداً في العالم الثالث إذا ما قورنت هذه النسب بالدول الأوربية.

هنا تتدخل (الأخلاق) و(المعتقدات) في مجتمعات العالم الثالث لتعفي السياسات الاقتصادية – الاجتماعية، وأسسها العلمية والعلوم القائمة عليها، من المسؤولية الناجمة عن تخبطها وتحمل المسؤلية للقوانين (الطبيعية) للمجتمع. فتتكرر المقولات (الأخلاقية) مثل (الابن يحمل اسم العائلة) و(الابن يفتح بيت العائلة) وغيرها من المقولات المرتكزة على إنتاجية المذكر بكونه (العامل المنتج) مقابل الأنثى (المستهلكة) مثل (سترتها زواجها)، و(ست بيت درجة أولى) و(تحمل زوجها على الحلوة والمرة).

 أخيراً (بيجي الصبي وبتجي رزقتو معو)، فما الحاجة إلى علم سكان واقتصاد واجتماع وسياسة اقتصادية– اجتماعية في ظل ما هو قائم؟!

العدد 1104 - 24/4/2024