اللامبالاة في البحث عن الذات في رواية (نبوءة على التلفاز)

 محمد أحمد الطاهر*:

روايةٌ تنتمي إلى الأدب الواقعي، قد ضمنها الكاتبُ الساطي، في ثمانية فصول، تراتبيةً، تقودك في مسار روائي شائقٍ، يأخذك الروائي في متاهات البحث عن الذات المفقودة، فجعلَ بطَلها الشابَّ الجامعي وائلَ، الذي يستأجرُ غرفة في أحد الأحياء الفقيرة، ويعمل موظفاً، في السجل العقاري، إنه الطموحَ الذي تهزمهُ الظروفُ الماديةُ السيئةُ، فها هو ذا يقبلُ بوظيفة رغمَ عدمِ تناسبها مع شخصيتهِ.

لقد أرادَ الساطي من  خلال شخصية البطل وائل، الحالمةِ بالسموّ والرفعة، البحثَ عن فتاة يهبها كل مشاعرهِ المشتعلةَ في أعماقه، سلمى السمراءُ ذاتُ الجسدِ الصغيرِ، لم تكن ذلكَ الطموحَ الذي يلبي غرورهُ، فهي ليستْ على بأس كافٍ من الجمال، فضلاً عن كون عمرها الذي بلغَ الثامنةَ والعشرين، لا يلبي هوسهُ بابنة الجيران ذات السبعة عشر عاماً، الشقراء ذاتِ العينين الزرقاوين، ولكنه لا يجدُ السبيل إليها، لكن في المقابل تبقى سلمى الناضجةُ التي تحصلُ على راتبها خالصاً لها، إضافةً إلى راتبه تجعلهما يعيشان عيشةً رضيةً، فيما لو تزوجا، إنه طموحُ سلمى زميلتهُ في العملِ، التي ترى في ثقافته وشخصيته المثيرة، وهي تسمعه متحدثاً مع صديقهِ سعيدِ، لكنه ليسَ طموحهُ.

ــ المعلمُ.. رمزٌ للهرم الأعلى الذي يقتصرُ دورهُ على إسداء النصحِ والأوامرِ من التلفاز الذي حاولَ مرةً تحطيمه.. يخبرهُ المعلم بماذا يفكر.. فيصاب بالهلع.. فيطلبُ منه، بأن يحملَ سكيناً وينزل إلى الشارع، فيقوم بثقب عجلات بعضِ السياراتِ، ثم يحزّ السكين على جانبي إحدى السياراتِ الفاخرةِ، محاولاً تشويهَ دهانها.

كانتْ هذه التجربة الأولى لوائل، جعلتهُ يشعر بالنشوة والانتشاء. إنه شعور النصر على الأنا المقهورةِ منذُ الطفولةِ، تمردَ على الهو الذي يسيطرُ على ذاتهِ مذْ كان صغيراً في بيت والده.. ما يلبث أن يشتاق لسلمى التي يبحث عندها عن لحظة يطفئ ثورتهُ الجنسيةَ المشتعلةَ في أعماقه، فتعتقد جهلاً أنه يهتمُ بها ويحبها، بيدَ أنها تفهمُ الحبَ، يعني الخطبةَ والزواجَ، ما جعلها عرضةً للوقوع في يد بعض المشعوذين الذين استغلوا حاجتها لدفع وائل لخطبتها.

لكنه يتذكرُ شقيقتهُ سعادَ المريضةَ والتي تحتاجُ لغسيل كليةٍ ثلاثَ مرات في الأسبوع، وأمامَ تلك الهواجسِ والضغوطِ الماديةِ والنفسيةِ، التي توترها بدءاً من مشاهدة الأفلام الإباحية على جواله، إلى لقائه مع الفتاة مايا التي جلبها القوادُ إلى غرفته بناء على طلبه ولقاء خمسمئة دولارٍ انتهت بالاتفاق على مئتي دولارٍ، فيشعرُ بالتعاطفِ معها عندما تشرحُ له ظروفها المؤلمةَ، وكيف أن القوادَ استغلها وفض بكارتها تحتَ وعدِ الزواج، ثم قام بتشغيلها في الدعارة، فأصبحتْ بين نارين. فتشعرُ بالميل نحو وائلٍ، وربما سيكونُ الرجلُ الذي قد ينتشلها من الخطيئة، لذلك بدأت تميلُ إليه وتأتيه دون علمِ القوادِ الذي قُتل في مصعد البناء خلال قيامه في توصيلها إلى أحد الزبائن، ثم قيامهُ بتحطيم أحد الصرافات، بمساعدة مايا التي تحمل شهادة سواقةٍ، حيثُ استأجرَ سيارةَ بيجو، كانَ من نتيجة العملية، سبعاً وأربعين ألفَ دولار، يستطيعُ بذلك أخذ شقيقتهِ إلى الهند حيثُ وجد متبرعةً بكلية لشقيقته، ولما كان عدمُ إعطاء مايا حصتها من عملية السطو، اكتشفتْ فيه إنساناً مرعباً لكنُه صامتٌ، وما أكدَ لها ذلك عثورُها على محفظة القواد وبطاقتهِ الشخصيةِ، فعرفتْ أن القاتلَ هو وائلٌ، ما أرعبها أكثرَ، فعليها البحثُ عن بقية الدولارات التي أخفاها في الغرفة التي تحتفظ بمفتاحها، فهي تعتقد أنه ترك لا يقل عن أربعةَ عشر ألفَ دولارٍ، مقارنةً بالمصاريف وقيمةِ العمليةِ، التي ولسوءِ الحظ َلم تنجحْ فيضطرُّ لدفن شقيقته في مقابر المسلمين في الهند، لكنه يكتشفُ لدى عودته إلى لبنان أن مايا قد جاءتْ إلى الغرفة وعثرت على محفظة القواد ومبلغٍ لا يقلّ عن ثلاثةِ آلافِ دولارٍ، فتختفي على أثر ذلكَ، ويسمعُ أنها سافرتْ إلى تركيا، وألغتْ رقم هاتفها.. نعم، إنها ساقطةٌ! هذا ما قالهُ لنفسهِ.. وحسناً أنها لم تجدِ الأربعةَ عشرَ ألفَ دولارٍ.

ــ لم يتوقفْ وائلٌ بعدَ موتِ شقيقته سعادَ والتخلصُ من أمه لدى دارِ العمرِ المديدِ للمسنّين.. نجدْ هنا الكاتبَ يتدخلُ في فضح الفردوس المفقود كما يقولُ فرويد لدى وائلٍ، وهو يبينُ كم عاشَ طفولةً سيئةً مع والدتهِ، نعم فهو لا يحبُها، رغمَ أنهُ أوحى لسلمى عكسَ ذلكَ عندما أخذها في زيارة أمه وشقيقته سعادَ قبلَ رحيلها.

يتلقى مجدداً الأوامرَ من المعلم الذي يأمرهُ بسرقة محل مجوهرات في شارع الحمرا في بيروتَ، ويتمكن من شلّ حركةِ صاحبِ المحل بالمسدس الصاعق الذي اشتراه له قريبُ سعيدٍ في الميناءِ، والذي تصرّفَ له بالمشغولات الذهبية لقاءَ مبلغٍ خمسةٍ وثلاثين ألفَ دولار حصلَ سعيدُ على نصيبه منها، ثم يأتيهِ الأمرُ مرةً أخرى لسرقة  محطة محروقات بمساعدة صديقهِ سعيدٍ بعد أن قام ابنُ خالهِ بتدبير أصابع الديناميتِ ، التي أدتْ إلى اشتعال الحريق في المحطة، لكن المعلمَ يدعوه ليهيئ نفسهُ لعملية لا تقلُّ عن مئتيِ ألفِ دولارٍ ، فوقع الاختيارِ على بنك، يتم الدخول إليه بحقيبة الكمبيوتر المحمولِ المحشوة بأصابع الديناميتِ، ليتم تفجيرها في داخل البنك، في حين يتسلل وائلٌ من الباب الخلفي للبنك  ليقوم بالسرقة في ذروة الذعر والانشغال، لكن الأمورَ لا تسيرُ كما يجبُ، فتغلق أبواب البنك بشكل أوتوماتيكي ويفقدُ وائلٌ صديقه سعيداً، في هذه الفترة كانت الشرطة الفرنسيةَ قد أرسلتْ للشرطة اللبنانية صورةً قريبةً للفاعلِ المتنكر الذي كان يرتدي زياً نسائياً وباروكة شعرٍ مستعارٍ، فكانت الصورةُ التحليليةُ قريبةً من وجه وائلٍ لدرجة ثمانين بالمئة، فتبدأ المراقبةُ الأمنيةُ لوائلٍ تمهيداً للقبض عليه، وعندما يدركُ وائلٌ أن الأمورَ بدأتْ تصلُ إلى خواتيمها، من خلال السيارة الأمنية المركونة عند مدخلِ البناءِ، الذي يستأجر فيه، فعاد إلى سريره، وفقدانه لصديقه سعيدٍ قد أحبط حالتهُ إلى الأسوأ، دون أن يدري أن ابنَ خالِ سعيدٍ قد قام بإخبار الشرطة اللبنانية عن وائل وسعيد أنه اشترى منه أصابعَ الديناميتِ لصيد السمك لكن بعد تفجيرِ البنكِ بالديناميت، ومن أجل أن يخلي مسؤوليتهُ، قام بالإخبار عنهما.

عندما جاء الأمرُ لاقتحام غرفة وائل والقبضِ عليهِ، كان ممدداً على سريره والرغوةِ البيضاء تخرجُ من فيهِ، بعد أن فارقَ الحياةَ.

لقد اعتمد الكاتبُ أسلوب الإدهاش للقارئ، الذي كان منتظراً طوال أحداثِ الروايةِ، الحالةَ التي ستؤولُ إليه النتيجةُ، ربما استطاع إنتاجَ شخصيةٍ غيرِ مباليةٍ، مريضةٍ، تحملُ تحدياتٍ للمجتمعِ، تعيش في داخلها ترسباتٌ منذُ الطفولةِ.. إنها حالةَ إنشاءِ حدثٍ جديدٍ بأسلوبٍ فني مبتكرٍ، مستخدماً الواقعَ بأسلوب احترافي رائع، حمل مشاهدَ سينمائيةً تأخذُ بتلابيبكَ منذ البدايةِ، فهو مقنعٌ عندما يتلقى تعليماتهِ من المعلم وهو غيرُ موجودٍ لأن التلفازَ لا يعملُ أصلاً، بل احتفظ به من إرث والدهِ، والأروعَ من ذلك أنه ترك للقارئ أسئلةً يجيبُ عليها، ابنةُ الجيرانِ ذاتُ السبعةَ عشرَ عاماً التي لم تكنْ موجودةً إلا في مخيلتهِ المريضةِ، التي بدأتْ منذ أن سرقَ قلمَ زميلهِ في المدرسة الابتدائية، لأن والدهُ لا يستطيعُ أن يجلبَ لهُ مثلهُ، ربما أرادَ أن يخلقَ توازناً معيناً، ليقول لنا إن المجتمعَ يتحملُ مسؤوليةً كبيرةً عما جرى، من خلال ما يعيشهُ الشبابُ العاطلُ عن العملِ، غيابَ العدالةِ الاجتماعيةِ، ربما من خلال ذلك أستطيعُ أن أعدَ مذكرةً للدفاعِ عن هذا المجرمِ المريضِ، من بابِ الإنسانيةِ ليسَ غير.      

  • محامي وروائي     
العدد 1104 - 24/4/2024