الليرة السورية رمز من رموز السيادة الوطنية

صفوان داؤد:

ما زال حديث الشارع  السوري هو انخفاض سعر الليرة السورية وتذبذبها الحاد، إذ تجاوزت قيمة الدولار الأسبوع الماضي في السوق السوداء حاجز الألف ليرة، قبل أن تهبط قليلاً لاحقاً. ومهما قيل عن هذا الارتفاع، فإنه يعكس حقيقة غياب الشفافية والإفصاح من قبل الحكومة عما يحصل، والتي يبدو أن المجالس التشريعية وفي مقدمتها مجلس الشعب ليست في وارد البحث المعمق فيه، علماً أن العملة المحلية في أي بلدٍ هي رمز من رموز السيادة الوطنية. وعكست ردود الأفعال والتحليلات الصحفية والإعلام الرسمي مدى بساطة النُخب السياسية والاقتصادية في سورية في تشكيل مقاربة موضوعية تفسر أسباب انهيار الليرة، فمهما يكن من أمر، فإنه حتى لو قام عدد من التجار بتهريب بضعة مليارات من الدولارات، فإنه لا يفسر التدهور الحقيقي لقيمة العملة، ولا يفسر سبب تربع سورية في المركز الأخير على سلم التصنيف الدولي لدخل الفرد عند رقم 479 دولار للفرد، ولا يفسر سبب تجاوز نسبة الفقر فيها عتبة 85% من عدد السكان.

التفسير المنهجي الأكثر صحة هو ارتباط قضية العملة بالبنية الاقتصادية- الاجتماعية التي شكلها غياب المشروع السياسي، وتقدم دورة الفساد  كمصدر دخل غير شرعي للثروة، توزعت ضمن شبكة من قوى السيطرة لكل نقطة فيها دورها وتأثيرها، إضافة إلى موضوع الخلل الحاد في الميزان التجاري.

وتُسجل التقديرات الاقتصادية أنّ حجم ما تستورده سورية سنوياً هو أكبر بكثير من حجم صادراتها بعجز قُدر بنحو 5,3 مليارات دولار ( عام 2017). وهذا ما يجعل الاقتصاد السوري في حالة استنزاف مستمر لإيراداته من العملة الصعبة، ولا يخفى هنا دور العقوبات الاقتصادية الظالمة المفروضة على دمشق في تأثيره على تضخم العملة. إن مسألة توريد الطاقة إلى سورية مثلاً تحتاج إلى آلية معينة لتجاوز العقوبات المفروضة؛ هنا دخلت حلقة وسيطة تستخدم شركات مُسجلة خارج الحدود كي تستطيع الالتفاف على هذه العقوبات.

وخلال سنوات الحرب كانت الدولة في حالة استنفار وغبار المعارك لم يهدأ، والأزمات مضبوطة بشكلٍ أو بآخر، لكن بعد تحرير الغوطة الشرقية عام ،2018 حُسِم موضوع (الانتصار) لصالح الدولة، وحُسم معه بقاء حلقة الاستيراد الوسيطة، ليس لاستيراد الطاقة فقط، بل لمجمل المواد الأساسية. هذه الحلقة الوسيطة هي ساحة من نمط خاص للقوى الاقتصادية المُسيطرة في سورية مُتضمنة تجّار الواردات القادمة عبر تجارة الحدود مع العراق ولبنان ومحافظة إدلب ومناطق شرق الفرات، والتي تشمل إضافة إلى مواد الطاقة، قطع الغيار والأجهزة الالكترونية والكماليات والأدوية وغيرها، وهذه الواردات لا يغطيها دعم البنك المركزي، وتتم تغطيتها من السوق السوداء المحلية أو الأسواق المجاورة، وتؤدي بشكل متزايد إلى رفع الطلب على حساب العرض. أما ما تغير بعد (الانتصار) في فشل ضبط انهيار الليرة فهو تحول من يُسمسر في هذه الحلقة الوسيطة إلى التوحش، وأصبحت مُصرّة على محاصصة المُنتج الخارجي والبيع للمستهلك الداخلي بسعر السوق السوداء للدولار (1000 ليرة)، في حين تتيح القوانين لكبار التجار سحب الدولار من البنك المركزي بسعر (434 ليرة). إن عدم قدرة البنك المركزي على وقف تسارع تصاعد التضخم أدى إلى انخفاض قيمة الليرة بشكل غير مسبوق، وسجل سعر الليرة ارتفاعاً من حوالي 500 ليرة بداية عام 2019 إلى حوالي 670 في أيلول ،2019 ثم إلى 1000 ليرة مطلع هذا العام. أي بانخفاض حوالى 7,3% شهرياً، حتى حركة البيع والشراء في السوق السوداء قد انحسرت بشكل كبير مع خوف المضاربين من إمكانية انخفاض أكبر للعملة. مثل هذا الانخفاض لا يدل على مؤامرة أو أحداث طارئة، بقدر ما يدل على خلل في بنية الاقتصاد السوري، والأهم من ذلك أنه يدل على غياب مشروع سياسي قادر على ضمان وتنفيذ برنامج اقتصادي متناسب مع الوضع الحالي، وقادر في الحد الأدنى على ضبط الموازنة العامة للدولة عند حدود التنمية الدنيا المقبولة. ففي عام ،2010 بلغت موازنة سورية 754 مليار ليرة سورية، أي ما يعادل 5,16 مليار دولار. في عام 2020 موازنة الدولة 4 تريليونات ليرة سورية، حوالى 2,6 مليارات دولار، بسعر صرف السوق السوداء و حوالى 9 مليارات دولار بناء على سعر صرف المصرف المركزي غير الحقيقي (434) ليرة للدولار. هذا يعني أنه منذ تشرين الثاني 2018 (وسعر الصرف 500 ليرة) إلى تشرين الثاني 2019 (وسعر صرف 635) أن الموازنة خسرت أكثر من مليار دولار، بأثر فعلي في الاقتصاد السوري خلال عام واحد. وفي محاولة لكبح هبوط الليرة أعلنت غرفة تجارة دمشق عن إنشاء صندوق تدخلي، للتشجيع على إيداع القطع الأجنبي في المصارف الحكومية. لكن على أرض الواقع هناك فوضى في تحديد سعر الصرف، إذ يوجد في السوق السورية أكثر من سعر للصرف، وهناك إضافة إلى سعري صرف البنك المركزي والسوق السوداء، سعر صرف لكل من التحويلات الخارجية وتمويل المستوردات، كذلك للصرافة المحلية المُرخصة. هذه الفوضى في تحديد سعر الصرف فتحت الباب على مصراعيه لعمليات المضاربة والمتاجرة بالعملة الصعبة. فيما بقي الأساس الاقتصادي القادر على ضبط قيمة العملة المتمثل بدعم قطاعي الزراعة والصناعة مهمل.

لقد جانبت الحكومة السورية الحقيقة عندما هللت للمواطنين السوريين بعد تحرير مدينة حلب أن القطاع الصناعي قد استعاد عافيته وبدأت عجلة النمو بالتحرك. لكن لم يكن هذا صحيحاً بالمطلق، فلكي تكون الصناعة قادرة على تصدير المنتج، يجب أن تكون ذات كلفة منخفضة وجودة عالية. وهذا ما فقدته الصناعة السورية عموماً والحلبية خصوصاً نتيجة الحرب، فالخبرة والإرث الصناعي دُمر وجودة الآلات تراجعت، وصعوبة تأمين المواد الأولية المستوردة والفساد وغياب الحيوية السياسية جعل كلفة التصنيع مرتفعة وكمية الإنتاج منخفضة. قابله تحسن إقليمي من الدول المجاورة في الإنتاج الصناعي ما أفقد المُنتج السوري القدرة على المنافسة. لقد أدى هروب الكتلة الرئيسية من الرأسمال السوري الصناعي بفعل الحرب إلى تآكل في الإنتاج الكلي، متضمناً الصناعات النسيجية والدوائية التي كانت توفر مبالغ طائلة من القطع الأجنبي.

وإذا ما تتبعنا تجارب لدول مجاورة لسورية مثل العراق ولبنان وإيران نتوقع أن الليرة السورية ستستمر بالانهيار وستتجاوز حكماً قبل نهاية عام 2020 عتبة الـ1500 ليرة. وسيأخذ هذا الانخفاض أحد طريقين؛ إما نتيجة تعويم الليرة السورية وتخلي الحكومة السورية عن سياسة حماية عملتها بسبب جملة من الظروف الموضوعية، منها تضرر عمل البنك المركزي نتيجة العقوبات الاقتصادية. وإما نتيجة قبول الدولة السورية لاتفاقات أممية معينة والبدء بإعادة الإعمار، وسيؤدي هذا إلى انخفاض حاد لليرة بعد زيادة الطلب على الدولار بسبب ارتفاع المستوردات.

 

العدد 1102 - 03/4/2024