مؤلمة هذه البلاد

مرح محمد نبيل السمكري:

موجعةٌ تفاصيل هذه البلاد، وموحشٌ هذا العالم الذي يقطن خارج باب المنزل، لا يعرف رحمةً ولا ليناً، ما زال منظر الطفل الصغير الذي يتوسل من خلف شبابيك السيارات على إشارات المرور ينصلب في ذاكرتي، خاصّة وأن درجة الحرارة أربع درجات تحت الصفر، وندفات الثلج البيضاء كانت تستقر على قدميه العاريتين، لماذا يجب أن يعيش هذا الولد بهذه القسوة؟ ما الذي أذنبه؟ هل تقاعس عن سهر الليالي فوق الكتب والمحاضرات؟ هل استسخف العمل الجّاد ولم يتحمّل ضرائب الطموح والإرادة؟ لا، ليس أيّاً ممّا سبق، إنه مجرّد فراشة خرجت من شرنقتها للتوّ لتجد كل هذا البؤس ينتظر قدومها.

مؤلمٌ ذلك الشاب مبتور القدمين، الذي استعاض عنهما بأضلاع من حديد تعينه في السير، استوقفني عندما صعد مركبة النقل العامة بمساعدة ثلاثة رجال، وعند جلوسه طلب من السائق أن يغفر له عدم دفعه للأجرة لأنه لا يملكها، هل كان ذنبه كبيراً ليحصد هذا الأسى؟

كلا، كل ما هنالك أنه كان في واجهة الحرب درعاً للآخرين.

ما زال أكثر ما يُثير غضبي هو مناظر السيدات المستضعفات، التي تختبئ خلف ظلّ ذلك الرجل (وليَّ أمرها) ولا تقوى على العطاس من دون إذنه، أو من دون مساعدة منه، فأنوثتها -باعتقادها- تُحتّم عليها ألا تقوى على تغيير بطارية الساعة عندما تتوقف، ولا تقوى على لفظ كلمة واحدة، لأنها ضعيفة جداً ولو استقوت ستذهب أنوثتها أدراج الرياح وستتحوّل لرجل مُصغّر!

ما ذنب تلك المسكينة على هذه السذاجة التي تتبنّاها، يكمن ذنبها بأنها نشأت في هكذا مجتمع، يُقيّم عفّة الأنثى بصوتها المنخفض وقلّة حيلتها.

على بُعد أحياء قليلة، يتغيّر العالم تماماً، تتحوّل هذه البلاد المُكتظّة بالحرب إلى جنّة من النعيم واللطف، تجد الأطفال يرتدون أفخم ماركات اللباس، يرافقهم سائقهم الخاص للذهاب لنوادي الرياضة والمسابح الشتوية، يتعلّمون في أفضل المدارس، مهاراتهم تسبق مهارات طالبٍ جامعي، ينامون على وسادات دافئة، بجانب مدافئ عالية الجودة.

أنا لا أدين هؤلاء الأطفال، على العكس تماماً، أنا سعيدة كلّ السعادة لما نالوه، لأنه حقّهم المشروع في الحياة، وواجب الكوكب أجمع أن يؤمّن لهم هكذا معيشة، لكن ماذا عن باقي الأطفال؟ ماذا عن صديقنا المتسوّل؟

في كوكب ذلك الطفل الرغيد تجد ذلك الشاب الذي يقود سيارته الفخمة بثيابه الأنيقة وشخصيته الكاريزمية، وعمله الجيد الذي يدرّ عليه راتباً مناسباً، أنا سعيدة كذلك لما ناله، لكن ماذا عن صديقنا مبتور الساقين؟ ماذا عن تلك السيدة المُستضعفة التي يوازيها ذلك الرجل القوي؟ واللّذان يُمثلان شخصيتان متناقضتان تماماً؟

يُعتبر مجتمعنا السوري خير مثال عن انعدام العدالة الاجتماعية بين الأفراد، والتي تعني بحسب تعريف الفيلسوف جون رولز تمتّع كل فرد من أفراد المجتمع بالمساواة في الحصول على الفرص المتاحة.

إن العدالة الاجتماعية تُمثّل الحديث الأساسي لكافة الإيديولوجيات السياسية والثقافية والثورية، ما زلنا نذكر شعار الثورة المصرية (عيش، حرية، عدالة اجتماعية)، وتُعتبر أيضاً الوعد الأساسي الذي يقدمه أيُّ مُنتَخَبٍ سياسي للشعوب ليصعد به قلوب المنكوبين.

ومن أساسيات نظرية العدالة الاجتماعية: المساواة بين كل أطياف المجتمع مهما كان جنسهم أو جنسيتهم أو ملّتهم، وتكافؤ الفرص، وتوفير الحياة الكريمة عن طريق تلبية الاحتياجات الأساسية للفرد (غذاء، مسكن، صحة، تعليم، عمل، سعادة -وهي نتيجة ما سبق-)، لكن يقف في وجه تحقيق هذه النظرية مبدأ الفساد والواسطات والمحسوبيات، وهو كفيل بتفتيت العدالة إلى ذرات، ممّا يؤدي لعدم المساواة في الحصول على فرص العمل وفرص التعليم والدخل الاقتصادي للفرد.

وللأسف فإن البلاد تنحدر في الفساد أكثر فأكثر، ويزداد الشرخ بين الطبقات أكثر، حتى كادت تختفي الطبقة المتوسطة من المجتمع، وصار المجتمع ينقسم لطبقة مُعدمة تحت خط الفقر مقابل طبقة ثرية.

ما عاد المجتمع السوري اليوم يندرج تحت أية تصنيفات إنسانية، لا مساواة ولا عدالة ولا حقوق ولا تعليم ولا أيٍّ من ذلك، بل بات ميداناً للصراعات الثقافية والسياسية والاقتصادية والمعيشية، وها نحن الآن على مشارف اليأس من الحلول.

العدد 1104 - 24/4/2024