مخاض كاذب
غزل حسين المصطفى:
هل كان ينبغي عليَّ أن أعطيها إياهم؟
هل كنتُ أنانية للحدّ الّذي جعلني أنعم وحدي بالدفء وأتركها تنفخ أنفاسها على كفيها المتشابكين؟
أين إنسانيتي واقتسامي الحياة برحابة صدر بمرّها قبل حلوها مع المحيط؟
كلُّ هذه الأسئلة والكثير من الملامة الّتي قضّت مضجع روحي، فتحت آلاف الأبواب المغلقة من المشاعر والمناظرات الفلسفيّة الإنسانيّة.
إذ كنتُ في الحافلة والكلُّ ينظرون في وجوه بعضهم في محاولةِ إيجاد تبرير للخروج في هذا المنخفض القاسي، ماذا لو كانوا يستطيعون ألاّ يفعلوا!؟
أمّا أنا فكان ما يشغلني هو ترتيب عبارات تنقل مشاعر الامتنان لأمي، فحرصها وخوفها عليّ ولحاقها بي حتى باب المنزل لتتأكد أن المظلّة في حوزتي والملابس تتناسب مع الجو وقُبّعتي الصّوفية تُغطي أذنيّ جيداً، ذلك وغيره كان السّبب في حالة الدفء التي أنعم بها، بينما ندف الثلج النّاعمة من خلف زجاج الحافلة تشرح حالة الصقيع.
خَلعتُ القُفازات لأُجري مكالمة هاتفيّة، وهنا أنقطع سيل السّعادة في جوفي حين وقع نظري على الفتاة الجالسة قُبالتي، تحمل أوراقها مُنهمكة بها، وبين الحين والآخر تشبك كفيها وتُلملمهما على بعض وتبدأ بالنفخ عليهما، تُقاوم البرد، تحافظ على قدرتها في استخدامها، فقد كان واضحاً على أوراقها أن قاعة الامتحان تنتظرها.
وهنا بدأت أتفحّص معالمها لا شعورياً وأنا أُفكر بطريقة أبادر بها بقفازاتي، علّها تُقف مؤقتاً أنين البرد المسموع من أطراف بنانها المُخضّب.
أخذني التّفكير إلى أشباهٍ كُثُر لها لكنّهم وإن كست أجسادهم الملابس غير أنهم بلا مأوى، تتقاذفهم السّيول، وينعم في ذات الوقت الكثير من النّاس (لاسيّما من علا قدرهم وغصّت جيوبهم) برفاهية الدفء وترف الاستمتاع بطقوس الشّتاء، وحتّى نحن أبناء الطبقة المتوسطة وإن كُنّا على أعتاب الانتقال لترتيب أدنى لتفنى طبقتنا الوسطى بعد أن نهشتها الحرب في إحدى ولائمها، قد لا يمرّ الشتاء علينا مرور الكرام، مئات الغصّات والحسابات الاقتصادية للمدخول والمصروف في سبيل استجماع قروش تشتري لترات من المازوت تقينا الليالي الحالكة في المنخفضات فيكون الدفء حالة غير دائمة.
أيقظ شرودي صوت السائق يقول: آخر موقف، البرامكة.
طال تفكيري ومازلت مُمسكة بالقفازين.
نزلت من الحافلة والملامة تأكلني، كيف غُصتُ في التّفكير بعيداً عن الفعل، وأيّة نتيجةٍ كانت إذ لم أحرك ولا بيدق! هل كان ينبغي عليَّ أن أعطيها إياهم؟
هل كنت أنانية للحدّ الّذي جعلني أنعم وحدي بالدفء وأتركها تنفخُ أنفاسها على كفيها المتشابكين! أين إنسانيتي؟
وقبل أن أتجاوز الخطوة الخامسة بعيداً عن الحافلة، وقف طفلٌ صغير يبيع (المعروك) اقتنص زاوية استراتيجية تحت أحد الشوادر هناك ليجمع قوته، وأقرانه على نغم ضحكاتهم يتراقصون.
أيّ حظٍ هذا وأيّ نهار يستفزني هكذا ويسوقني نحو صفةٍ أخرى من التفكير!
(جابرينا يا أنسة.. الله يوفقك) جملةٌ أدمعت قلبي فوراً، وكان ما طلب.
وفي لحظةٍ ما كُدت أجلس على الرّصيف، لا أدري لماذا، لكن كلّ ما كان في خاطري حينها أنَّ ميزان العدل الذي عَلِق في ذاكرتي، وعلى انتصاب كفتيه بُنيت المبادئ وعلّلت القيم، أراه اليوم مُنكّسٌ أخرس لا صوت له في بلادي.
نعم، لا أعيش في المجتمع الفاضل، ولا تُنسّم علينا ريح يوتوبياء وأدركت تماماً المعنى الفعلي لفكرة انعدام العدالة على الأرض، لكن ليس بهذا الشكل وليس لهذه الدرجة.
نحن نفقد الرحمة فنُطبل للرذيلة، لا نستنكر فاحشةٍ إن لم تمسّنا.
عدالة القانون تسري، ولكن على كلّ ضعيف لا حول له ولا قوة، والعدالة الاجتماعية هُتِك حجابها قبل أن تمشي بيننا، تكوّنت بتزاوج الإنسانية والفكر الفلسفي، وماتت حين لفّوا عليها حبلها السرّي، وصار المجتمع البشري من بعدها عقيماً، لم يتدارك فقدانها بحملٍ جديد، كل ما نشهده هو تمخّضات كاذبة من تحريض وهمي كي نكفَّ عن البحث.
لا أدري ماذا أقول بعد، في جعبتي الكثير، فغضبي وحقدي لم تخبُ نارهما.
عدت من مكتب الجريدة إلى المنزل وملامحي متبدّلة، استوقفتني أمي مُستغربة كيف لم أهرع إليها لأحدّثها عن نهاري وبقيت صامته وساكنة كما لم أكن، نظرتُ لها وكانت أهدابي مُثقلة بما رأيت، قلت لها أتدرين يا أمي، حين يتسرّب الحزن أو الألم إلينا يستقر في أرواحنا، يُثقلها ويفقدها في كل يوم بريقها وطفولتها، اليوم أدركت أن تفكيري بكل شيء كان يهرب ليلاً من دماغي ويتسرّب إلى نُقيّ عظامي ويدق مساميره هناك، أصبحت مُثقلة بكل شيء ولا أملك إلاّ قلمي.