جالية معولمة أمريكياً داخل اليسار

بولس سركو:

عام 2016 مات صادق جلال العظم، فاشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالتراشق بين المترحمين عليه والرافضين لذلك، وتكرر المشهد عند موت ريم بنا (آذار 2018) ومي سكاف (تموز 2018) وقبل أيام موت نجوى قاسم، وجميع هؤلاء من شخصيات اليسار المعروفة التي اتخذت مواقف معارضة لسورية، وهو محور الاختلاف الحاصل في المواقف داخل أوساط اليسار.

بغض النظر عن المدلولات اللاهوتية الغيبية والأخلاقية لمفهوم الترحم، نحن أمام ظاهرة حادة وخطيرة تجسد الانقلاب المفاهيمي الذي أحدثته العولمة المتوحشة، وتمكنها من خرق فئات من اليسار واستقطابها لخدمة مشروعها الإمبريالي الجديد، وعجزها عن خرق فئات أخرى وطنية محصّنة معادية للاستعمار بقديمه وجديده، فالظاهرة إذاً في عمقها الثقافي السياسي صراع بين ثقافة مقاومة، وثقافة مهزومة.

قد يحيل البعض مسألة اختلاف اليسار نفسه على قضية ما إلى استمرار حيوية الفكر ونشاطه بعد خروجه من القوقعة إلى آفاق تنوع الرأي داخل البيت الواحد، لكن الاختلاف الذي نحن بصدده ليس بهذه الإيجابية، فهو صدام ثقافتين يستحيل التقاؤهما، لأن إحداهما نافية للأخرى.

لم يعد خافياً على أحد أن ما حدث منذ آذار 2011 في سورية ليست ثورة، بل عدوان وحشي دولي إقليمي داخلي متنكر بالثورة، على دولة ذات سيادة، وكانت لهذا العدوان أدواته المحلية الشريكة في حفلة التجميل، ومنها الشخصيات المذكورة المصطفة في الخندق المعادي والمساهمة في صياغة القناع الثوري للحرب العدوانية، مستخدمةً لغة التحريض المذهبي والطائفي والعرقي التي تطلّبها التحول إلى (صراع الحضارات). لقد كانت هذه الشخصيات وغيرها طبعاً، أدوات تضليل الشعب السوري ودفعه إلى المزيد من التدمير الذاتي، لذلك أعتبرها إهانة مؤلمة للسيادة والكرامة الوطنية أن يترحم سوري ما على موت أحد قتلة شعبه من جهة، وخيانة عظمى للوطن من جهة ثانية، فقد وجهت الفئات اليسارية المتحولة إلى الخندق الإمبريالي المعادي طعنة غادرة لئيمة مزدوجة لقيم اليسار ونضاله التاريخي ضد الاستعمار والتبعية وللوطن على حد سواء، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يحتدم الصراع بين أنصار الثقافة الوطنية المقاومة المتمسكة بالقرار السوري السيادي المستقل، وأنصار الثقافة التابعة المهزومة أمام الغزو الثقافي للعولمة المتوحشة  داخل البيت اليساري.

مشروع أمركة العالم، الشكل الجديد للاستعمار الذي يلجأ لفرض إرادته بين الحين والآخر  بالصواريخ والطائرات، يلجأ كل يوم وكل ساعة لفرض هذه الإرادة بالثقافة والإعلام عبر وكلائه المحليين، على سبيل المثال كانت الإعلامية اللبنانية نجوى قاسم مقدمة برامج سياسية في تلفزيون المستقبل قبل انتقالها لتدير البرامج التحريضية  الدعائية على قناة العربية والعربية الحدث (حدث اليوم) و (نهاية الأسبوع)، وقد وصفتها جريدة الرياض السعودية بـ(المراسلة الحربية ) كما عرفت بـ(صديقة الثورة السورية) بسبب انحياز برامجها واتخاذها نسقاً هجومياً على سورية وترويج المصطلحات الملغومة المغايرة للواقع مثل تسمية الإرهابيين بـ(مقاتلي المعارضة) والجيش السوري بـ(قوات الأسد) أو (جيش النظام) وغيرها الكثير، مما ترك أثره النفسي البالغ في تجييش الرأي العام، وزيادة تعقيد المشهد السوري الدامي، هذه الإعلامية الدمية في مشروع الشرق الأوسط الجديد، كتب بعد موتها قيادي يساري لبناني على صفحته مذكراً بمرحلة سابقة من حياتها كانت ناشطة ضمن شباب الحزب الشيوعي اللبناني أثناء العدوان الصهيوني على لبنان، وكأن استحضار ذلك الماضي قبل 38 عاماً سيبرّر عار تحوّلها إلى الحضن الامبريالي وعملها في برامج الفضائيات الرجعية التي امتهنت تأجيج العنف في الداخل السوري، وبثت روح الحقد والكراهية والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد، أو سيغيّب من ذاكرة مئات الآلاف من ذوي الشهداء السوريين الذين ما تزال دماؤهم طرية على أرضنا، وأقاربهم ومعارفهم، الدورَ الإجرامي القذر الذي أدته هي والقناة التي تعمل لحسابها.

الحجج التي يسوقها المتحولون وغيرهم لا تقتصر على استحضار الماضي وتغييب الحاضر، فهناك جملة من التبريرات التي دأبت على ترديدها الجالية المعولمة أمريكياً، كحجة حرية الرأي والتعبير التي جعلوا منها ممراً إنسانياً للخيانة العظمى، وحجة (لا تجوز على الميت إلا الرحمة) وحجة أولوية المهنية العالية والكفاءات على الموقف السياسي، أو محاولة إحاطة بعض القامات الاجتماعية بهالة من التقديس تمنع المس بهم مهما كانت نتائج سلوكهم دامية ومدمرة.

إن الظاهرة التي استفحلت في زمن العولمة ليست بجديدة، فطالما تعرض اليسار لمحاولات الرأسمالية المستميتة لخرق صفوفه، وقد وصف لينين أمثال هؤلاء السابحين مع التيار (ص280م1ج2 ) بـ(التافهين ضيقي الأفق، الضعفاء والبلهاء وهم على صلة وثقى بمصالح السادة في الأمم المسيطرة). لذلك فان احترامهم وإجلالهم هو احترام وإجلال سادتهم في الوقت ذاته من وراء ادعاء العداء للاستعمار، وهذه الديماغوجية ليست من تقاليدنا ولا تمت الى إرثنا النضالي بصلة، فعلى مدى هذا الإرث المشرف كانت وستبقى المعركة مع عملاء الاستعمار المحليين سواء كانوا من اليمين أو اليسار المخروق، فهي جزء لا يتجزأ من المعركة مع الاستعمار ذاته.

العدد 1104 - 24/4/2024