دييغو ريفيرا.. رائد الفنّ الشّعبي في المكسيك

  إعداد: إسكندر نعمة /  لوس أنجلوس:

يُعدّ دييغو ريفيرا أحد روّاد الفنِّ التشكيليّ في القرن العشرين.  وقد استطاع من خلال أعماله الفنّيّة استقطاب الجماهير الشّعبيّة في وطنه المكسيك وبعض مناطق الولايات المتّحدة الأمريكيّة.

وُلد دييغو ريفيرا عام 1886 في مدينة جوناجوتّا في المكسيك.  ومنذ طفولته بدت عليه أمارات الموهبة والذّكاء وحبّ المعرفة والاطلاع على كلِّ جديد.  وعندما تدرّجَ في ملاعب الشّباب واليفاعة، بدت عليه نزعات التّوجّه نحو الأفكار المتنوّرة والمتحرّرة والبحث عمّا هو أفضل.

تخرّج ريفيرا في مدرسة الفنون في مدينته جوناجوتّا، محرزاً الدّرجةَ الأولى في صفّه.  بعد ذلك وفي عام 1907 غادرَ المكسيك ليسلخ قرابةَ 14 عاماً من عمره في أرجاء أوربّا، حيث كانت القارّة الأوربيّة آنذاك تُعدُّ المدرسةَ الفنيّة الأكثر تطوّراً، ومدرسةَ الإشعاع الفكريّ المتنوّر.  خلال تلك الفترة تابع دراسته في الفنّ، وتعمّق في سبر أغوار المدارس الفنيّة التي تنشر ألقَها ومضامينها في كلّ مناحي أوربّا، واتّجه اتّجاهاً خاصّاً ومعمّقاً نحو الرّسم والإبداع بالقلم والرّيشة والألوان.  وقد تأثّر إلى حدٍّ بعيد بأساتذة الفنّ والمبدعين الكبار وخاصّة المبدع والرسّام الأسبانيّ بابلو بيكاسّو.  وقد تركت لوحات بيكاسّو وآراؤه الفنيّة آثاراً جليّةً على أعمال ريفيرا وتوجّهاته الإبداعيّة.

لم يكن ريفيرا تلميذاً لبيكاسّو فحسب.  بل اندفع بصدقٍ وقناعة لا تقبلُ الزّيف نحو اعتناق الأفكار الثوريّة والولع بالنّشاط السّياسي، فقد كانت أوربّا يومئذٍ تمور بالحركات السّياسيّة والفكريّة المتناقضة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.  وقد انحاز ريفيرا إلى صفوف الحركات الثوريّة متأثّراً بالمفاهيم الماركسيّة والعلمانيّة التي كان إشعاعها يملأُ أرجاء القارّة الأوربيّة.  وقد وجد ريفيرا في الفنّ والرّيشة والألوان طريقاً خلاّقةً لنشر الوعي الثوريّ والثّقافة العلمانيّة والإنسانيّة بين صفوف الطّبقات الاجتماعيّة المُضطهدة والغافية على ظلام الأفكار البالية.

في عام 1921، عاد ريفيرا إلى وطنه المكسيك، فنّاناً متميّزاً مُشبعاً بالنّظريّات والآراء الثّوريّة، متسلّحاً بمفاهيم الماركسيّة والاشتراكيّة العلميّة.  لقد أراد أن يكون فنُّه جزءاً من تاريخ بلاده، وملهماً للجماهير الشّعبيّة المهمّشة الساعية إلى طريق حياة أفضل.  كان مؤمناً أشدَّ الإيمان بأنّ وطنه يجب أن يكون لكلّ جماهير المكسيك، وليس لحفنةٍ قليلة من الأثرياء والوسطاء.  وكان ينطلق في ذلك من مقولة أنّ مهمّة الفنِّ الأولى لا تندرجُ في إطار تقديم عناصر الجمال والمتعة فحسب، بل العمل على تحقيق العدالة والمساواة ونشر الثّقافة الإنسانيّة بين الجماهير العريضة.  وأنّ مهمّتهُ الكبرى كفنّان أن يُعلّم الجماهير الشّعبيّة الغافيةَ من خلال لوحاته وألوانه ويدلّهم إلى طريق المستقبل الأكثر سعادة.  ولذا كان يسعى أن يعرض لوحاته على أوسع شريحة من النّاس والبسطاء، فقرّرَ بحزم أن يخرج من نطاق برج الفنّ العاجيّ، ويبتعدَ عن الأفق الضيّق للمراسم والمعارض الفنيّة، ويتّجهَ نحو رسم اللّوحات الجداريّة على جدران المباني الرّئيسيّة والكبيرة سعياً وراء تعريف جماهير المكسيك على تراثه وثقافته وتاريخه.

تعرّف َ الشّعب المكسيكيُّ إلى لوحة ريفيرا الأولى مرسومةً على جدار المدرسة العامّة الرّئيسة في عاصمة بلاده.  وقد كانت لوحةً رائعةً ذات شهرةٍ واسعة الطّيف.  أعدادٌ كبيرة من جماهير المكسيك كانت تجتمع كلَّ يوم لمشاهدة هذه اللّوحة والتّحدّث عن ألوانها وجمالها وإيحاءاتها، الأمرُ الذي حدا بكثير من رسّامي المكسيك الآخرين أن يحذوا حذوه في إبداع لوحات جداريّة في أماكن متفرّقة من مدن المكسيك وضواحيها، حتّى غدت المكسيك المركز العالميّ الأشهر في رسم اللّوحات الجداريّة.

ازدادت شهرةُ ريفيرا الفنّية وانتشرت لوحاته الجداريّة في كلّ مكان من المكسيك.  كان يعمل وحيداً دون كلل، يسلخُ حوالي 15 ساعة كلّ يوم واقفاً أمام الجدران والرّيشة والألوان، ليبدعَ شيئاً ما يقدّمه للشّعب.  الأمرُ المثير للدّهشة، أنّ مجموع لوحاته فيما إذا جُمعت إلى جوار بعضها، يمتدُّ مسافة 4 كم موزّعةً على جدران المباني العامّة لتكون ملكاً للنّاس في رواحهم وذهابهم.  وكانت لوحتُه الأشهر تلك التي تتألّفُ من 124 جزءاً، تتحدّث متضامنةً عن تاريخ المكسيك وتقاليده وحياته الاجتماعيّة.  وقد استمرّ نشاط ريفيرا الإبداعي على الجدران مدّةً تزيد عن 4 سنوات مستمرّة لم يعرف خلالها أي تراجعٍ أو توقُّف.

في عام 1930 هاجرَ ريفيرا إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة في محاولة لنقل رؤيته الفنيّة والفكريّة إلى الجماهير المكتظّة في شمالي المكسيك.  وظلَّ هناك حتى عام 1934.  خلال تلك الفترة رسم العديد من اللّوحات الجداريّة على المباني العامّة في مدينتيْ ديترويت وسان فرنسيسكو.  إلاّ أنّ لوحته الأكثر شهرةً وأهميّة والتي كانت سبباً في خلق المتاعب والصّعوبات أمام مسيرته الفنيّة، كانت تلك اللوحةَ التي رسمها في نيويورك على جدار المبنى الكبير التّابع لوزارة الماليّة آنذاك.  لقد رسم ريفيرا لوحةً كبيرةً متعدّدة الأبعاد ضمّنَها صورةَ القائد الشّيوعي فلاديمير إيليتش لينين ومن حوله الجماهير الثّائرة مؤرّخاً بذلك لثورة أكتوبر الاشتراكيّة.  وقد كان ريفيرا يرى في لينين النّموذج الفذّ للقائد والمفكّر الثّوريّ.  كان التّزاحم والإقبال على مشاهدة العرض الفنيّ شديداً ومؤثّراً، الأمرُ الذي أحدث حول أعمال ريفيرا صخباً وضجيجاً متناقضين.  وفي صبيحة أحد الأيّام استيقظ ريفيرا واستيقظ سكّان نيويورك ليجدوا أنّ هذه اللّوحة الجداريّة الكبيرة قد شُوّهت وخُرِّبت وأُزيلت بعض معالمها، الأمر الذي دفع ريفيرا لمغادرة الولايات المتّحدة الأمريكيّة عائداً إلى وطنه الأُم المكسيك.

كان الرسّام المبدع ريفيرا ينطوي على صفات خَلْقيّة وخُلُقيّةٍ متميّزة.  كان طويلاً يبلغ طوله حوالي المترين.  ووزنه يبلغ حوالي 120 كم.  إلاّ أنّه وعلى الرّغم من هذه الضّخامة الجسديّة، كان بارعاً في عرض لوحاته وجذب الجماهير واستقطابها، ذلك أنّ أعماله كانت تروي قصصاً وحكايات تدور في معظمها حول تقاليد الشّعب المكسيكي الثّقافيّة والاجتماعيّة، كما تروي حياته الخاصّةَ هو كمبدع وواحد من أبناء الشّعب.

لم يكن ريفيرا شخصيّةً أُحاديّةَ الجانب، فقد جمع في داخله تناقضات عدّه ساهمت مجتمعةً على تكوين شخصيّته الفنيّة والذّاتيّة، فعلى الرّغم من أنّه كان يتميّز بالحدّة والصّلابة في آرائه السياسيّة والفكريّة والعقائديّة، فقد كان بارعاً في جذب الأصدقاء والمحبّين وخاصّة في عالم النّساء.  لقد تزوّجَ عدّة مرّات ولم تكن حياته الزوجيّة والذّاتيّة هادئةً مستقرّة. ففي عام 1934 بعد عودته إلى المكسيك تزوّج للمرّة الثّالثة من الفنّانة المكسيكيّة فريدا كاهيلو ذات الشّهرة الواسعة. أحبّها وأحبّتهُ بشكل عاصف، وتعاونا فنّيّاً وإبداعيّاً، إلاّ أنّ حياتهما الزوجيّة كانت مشحونةً بالتّناقض والخلافات الشخصيّة، الأمرُ الّذي أدّى إلى طلاقهما وزواجهما عدّة مرّات.  الصّحفُ المكسيكيّة كانت تكتب وتتحدّث عن حياة ريفيرا وكاهيلو الفنيّة والزّوجيّة.  لقد عاشا في مكسيكو سيتي عاصمة المكسيك في بيتين منفصلين متجاورين، أحدهما مدهون باللّون الأزرق والآخر باللّون الزّهريّ.  حبٌّ عميق وخصامٌ شديد والفنُّ يتألّقُ بينهما.  وتشاء المصادفة أن تقضي الفنّانةُ فريدا كاهيلو نحبها بحادثة اصطدامٍ مروِّعة، ولم تتجاوز من العمر السّابعةَ والأربعين، بعد أن عاشت سنواتها الأخيرةَ في حالة من الألم والعصاب كما تدلُّ على ذلك لوحاتُها.

 حزن دييغو ريفيرا عليها حزناً بالغاً، وعاش بعدها حياةً مُرتبكةً مضطربة، وقد وصفتهُ إحدى الصّحف بأنّه قد هرم فجأةً بسبب موت حبيبته.  إلاّ انّه ما لبث أن تزوّج ولمّا يمضي على وفاتها سنتان. بعد ذلك عاش ريفيرا حياةً هادئةً عاديّة منصرفاً إلى أعماله الفنيّة.  وفي عام 1956 فارقَ الحياة وهو في السّبعين من عمره.

العدد 1104 - 24/4/2024