قتل العلوم الاجتماعية قتل للمجتمع

د.أحمد ديركي:

يظن البعض، والأصح الأكثرية، في مجتمعاتنا العربية أنَّ العلوم الاجتماعية بكل فروعها ومن ضمنها الفلسفة (وهي الأهم كون كلّ العلوم الاجتماعية مشتقة منها) مجرد علوم لا حاجة لها ولوجودها، إن اعتبرت مجتماعتنا العلوم الاجتماعية علما،ً وإن وجِدت فهي لا تتعدى حدود الترف الفكري و(التفلسف) الفارغ المحتوى والمضمون، وماأكثر أمثلتنا الشعبية للدلالة على هذه الفكرة.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل ينعكس على الفكر الجماعي الذي يحمله المجتمع، إذ تصبح العلوم الاجتماعية حاجة اللاحاجة لها لتوضع في خانة الأشياء غير النافعة للاستخدام.

وجلُّ ما يمكن فعله لهذه العلوم هو أن تكون مادة دراسيّة للمرحلة الثانوية، مادة مملة لا فائدة منها سوى الحفظ والتّسميع للحصول على بعض العلامات الإضافية لإنهاء المرحلة الدراسية.

تُحفّظ وتُسمّع بشكل سطحي من دون أي تفكرّ أو تفكير بمحتواها، وإن كان لها محتوى يُحرّف عن مسارة، حتّى يتحول إلى قراءات فرويدية أو علم نفسوية من دون أسس معرفية، أوتتحول
إلى  نقاشات سطحية لأفكار عميقة، والتسطيح للأفكار هدفه منع الغوص بها.

إن وجدت العلوم الاجتماعية في مرحلة ما بعد التعليم الثانوي، أي على المستوى الجامعي، تكون الاختصاص الأقل إقبالاً عليه، إن لم تكن دراسة فرع من فروعه إلزامياً لعدم توفر (مجموع) كافٍ لاختصاصات أخرى وفقاً لبعض الأنظمة التعليمية.

فتصبح الدراسة الجامعة لفرع من فروعه مجرد مضمون فارغ، الهدف منه القول أنّ الفرد يحمل شهادة جامعية ليحتل مركزاً اجتماعياً مخالفاً عمّن لا يحملها.

لذا يندر في مجتمعاتنا العربية وجود من هم فعلاً مهتمون بالعلوم الاجتماعية، وضمناً الفلسفة، وإن وجدوا فهم مُعطلون عن العمل والتفكر والإنتاج الفكري بفعل قسري وليسوا عاطلين على العمل. فيصبحون مجرد (حاملي شهادات جامعية) باحثين عن أيّ عمل يمكنه أن يؤمن لهم لقمة عيشهم.

وهنا يمكن طرح السؤال التالي: هل فعلاً العلوم الاجتماعية، بكافة فروعها، لزوم ما لا يلزم؟

إنها فعلاً كذلك في المجتمعات المريضة التي تعاني مرض (رهاب التفكير).

وكلمة (مجتمعات) هنا أوسع من معناها الضّيق المحصور فقط بالبنى المجتمعية، ليطال كافة مناحي الناتج الاجتماعي أي (السياسي والاقتصادي).

كون العلوم الاجتماعية متفرعة من الفلسفة، فما هي الفلسفة؟

الفلسفة بشكل بسيط بالمعنى اليوناني تعني (حب الحكمة) والحكمة لا يمكن أن تكتمل ما لم ترتبط بـ(الكمال) ومن مستلزمات الكمال العلوم الطبيعية (فيزياء، كيمياء، رياضيات…) ومن خلال هذا الترابط ما بين الفكر والعلوم الطبيعية تنبثق الفلسفة، والعلوم الاجتماعية برمتها، لتمنح المجمع أفضل سبل العيش على كافة الأصعدة المجتمعية والسياسية والاقتصادية لترفع الوجود الإنساني لمستوى الإنسانية.

ومن هنا فهي لوزم مايلزم في المجتمعات التي لاتعاني من مرض (رهاب التفكير) ولزوم ما لا يلزم في المجتمعات التي تعاني من هذا المرض. فعلى سبيل المثال مازالت اليونان (منذ ما قبل الميلاد) قائمة بفسلفتها حتى اليوم، تؤثر في كل مناحي حياتنا اليومية من أفكار سقراط وأفلاطون وأرخميدس وأبيقيور… وجميعهم يطلق عليهم فلاسفة ذاك العصر، وكانوا يجيدون العلوم الطبيعية لإعتبارهم أن هذه العلوم جزء لايتجزأ من الفلسفة.

فتأتي من بعدها الحضارة الإسلامية – العربية مستفيدة من اليونانية ومضيفة عليها ما أضافت حتّى تنتج فلاسفة على مستوى فلاسفة اليونان من أمثال ابن سينا، وابن رشد، والفارابي… ومن ثم أتت الحضارة الغربية مستفيدة من اليونانية والإسلامية – العربية مضيفة عليها ما أضافته لتولد فلاسفة من أمثال ديكارت، وكانط، ونيتشه، وهيغل، وماركس… للنهوض بهذه الحضارة ووضع أسسها.

من هنا ينبع (رهاب التفكير) في مجتمعاتنا، رهاب من التقدم والتطور باتجاه بناء إنسان، لذا عُمل على تحطيم العلوم الاجتماعية، وبخاصة الفلسفة، لتثبيت ما هو قائم والعيش بوهم الثبات الاجتماعي لا حقيقة الديناميكية الاجتماعية والذهاب إلى قشور العلوم الطبيعية من دون التفكر الفلسفي بها لتصبح هذه القشور جوهر التوهم الفكري للفكر والسعي وراء ألقاب لتأمين المركز الاجتماعي والمادي للعيش في (وهم المعرفة).

فيصبح من خلال هذا (الوهم المعرفي) لقب دكتور أو مهندس أو أستاذ… مجرد لقب محمي بوهم المركز الاجتماعي والمادي المحترم من أيّ فهم أو تفكر بمعنى هذه الألقاب والتي في الأساس هي فكر فلسفي.

على سبيل المثال أيضاً هل (الطب) علم مجرد عن مفهوم الإنسان؟

هل (الهندسة) مجردة عن الواقع الاجتماعي والحاجة المجتمعية؟

هل (التعليم) مجرد من مفهومه الإنساني؟

ما هي أخلاقيات العلم؟

لذا إن أردت أن تُدمر مجتمعاً، دمر العلوم الاجتماعية، بكافة فروعها فيه، وحقّرها، حينها تنجح في خلق مجتمع تابع متقوقع خاضع لمشيئة من يعمل على تدمير العلوم الاجتماعية.

وهذا أمر جلي في مجتمعاتنا العربية ويمكن ملاحظته من خلال عدد مراكز الأبحاث المستقلة ونتاجها والإنتاج الفكري فيه مقارنة بأصغر بلد غربي.

العدد 1102 - 03/4/2024