صرخة أخيرة في رحلة التيه
إيمان أحمد ونوس:
حياة الإنسان منذ أن ترى عيناه النور عبارة عن رحلة إثبات وجود على خارطة الإنسانية وفق مقوّمات العيش الآمن الكريم وتلبية كل ما من شأنه الحفاظ على حياته القائمة أساساً على تلك الكرامة التي تميّزه عن باقي الكائنات والمخلوقات، وأبسط تلك المقوّمات تأمين الغذاء اللازم والمأوى اللائق والمحافظة على استقرار الوضع الصحي بشكل يُبقي الإنسان قادراً على تلبية كل ما يحتاجه أو يُطلبُ منه في مجتمع يجب عليه أن يحترم وجوده مثلما يحترم حقوقه كافّة.
وحين يكون هناك انتقاصٌ لأيٍّ من تلك الاحتياجات أو الحقوق، تغدو المعادلة غير صحيحة، وتكون النتائج بالتأكيد غير إيجابية سواء بالنسبة للفرد أو للمجتمع. ذلك أن الإنسان الذي يفتقد الإحساس بإنسانيته أو كرامته عبر هدر أبسط حقوقه أو تجاهلها، لا يمكنه بأيّ حال أن يبقى متوازناً أو مُلبيّاً لما يُطلب منه من واجبات عامّة أو خاصّة. فكيف إذاً سيستقيم الحال مع افتقاد أدنى مقوّمات البقاء على قيد الحياة من طعام ودواء ومسكن يقيه حرّ الصيف وبرد الشتاء، أو يدفع عنه أيّ خطر خارجي مفاجئ؟
ونحن اليوم أمام اختراق خطير وفظيع لأبسط حقوق الإنسان السوري الذي صبر وصمد في وجه حرب شعواء عبثية اغتالت كل مقوّمات الاستمرار لدى الغالبية العُظمى من السوريين الذين لاقوا النزوح والتهجير والتشرّد لمن نجا من لظى ولهيب وسعير تلك الحرب التي استمرت أكثر من ثماني سنوات، ومازالت مُستعرة حتى اليوم في مناطق أخرى. وفوق كل هذا، لم ينجُ السوريون من جشع وطمع تُجّار وسماسرة الحرب، اولئك الذين بلغ بهم الحدّ المُتاجرة بقوت الناس لأقصى حدٍّ يمكن لنا تخيّله، ولم تُثنهم لا نداءات الجائعين، ولا استغاثات الموجوعين المقهورين، فقط لأنهم لم يجدوا من يتصدّى لهم أو يلجم جماح شهوتهم للربح والاحتكار والسمسرة على حساب دماء السوريين وبقائهم، بل ذهب الحال ببعضهم للتحكّم بمصائر العباد عبر حماية الجهات التي كان يجب عليها حماية ودعم صمود أولئك الصابرون فقط من اجل ألاّ تنهار البلاد وتذهب ريحها… واليوم، وبعد كل ما جرى، وبعد كل ما عاناه ملايين السوريون الذين أصبح غالبيتهم تحت خط الفقر المُعترف به دولياً بدرجات، لم يبقَ أمام أولئك الذين يشهقون بالنفس الأخير إلاّ أن يصرخوا صرختهم الأخيرة قبل رحلة تيه لا يُعرف مداها، وقرروا أن يقاطعوا الأسواق والتُجّار مباشرة وعمداً رغم أنهم بالأساس يعيشون حالة مقاطعة غير مُعلنة منذ سنوات وسنوات لكل ما يمكنه أن يُشعرهم بآدميتهم وأهمية ما قدموه لأجل أن تبقى البلاد بأهلها ولأهلها.